ما وراء مذكرة القضاة؟

يتسم النظام القضائي في العالم كله بالاستقرار والثبات والاستمرارية، بخلاف المؤسسات السياسية والاقتصادية والعسكرية، التي تقوم على مبدأ التغيير المستمر. مثلا، يخدم كل رئيس أميركي لمدة أربعة أعوام، ولا يمكن أن يعاد انتخابه لولاية إضافية إلاّ مرة واحدة، ويخدم أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي لمدة ستة أعوام. ويمكن إعادة انتخابهم من دون حدود، بينما يتم تجديد نصفي لأعضاء مجلس النواب كل سنتين، ويمكن إعادة انتخابهم إلى ما لا نهاية. أما قضاة المحاكم الفديرالية، بمن فيهم قضاة المحكمة العليا، فيخدمون، من دون أي حدود، مدى الحياة.
هذا الذي مكن المحكمة العليا في أميركا من تثبيت ولاية بوش في الدورة الأولى، عند الاختلاف على عدّ الأصوات، وهي ذاتها التي وجهت لطمة قاسية لبوش عندما اعتبرت سجن غوانتنامو غير قانوني. هذه الحصانة للقضاء لم تعن أبدا عدم مناقشة قرارات المحكمة وتقييم قضاتها وتوجيه الانتقاد لهم.
عندنا تتداول وسائل الإعلام أخبار إقالة قضاة أو استقالتهم وتتحدث عن مذكرات احتجاجية على قانون استقلالية القضاء، وكأننا نتحدث عن قضايا موظفين في وزارة السياحة. ولك أن تقارن ذلك بالنقاش الذي تشهده الولايات المتحدة عند تعيين قاض في المحكمة العليا، بعد وفاة عضو أو استقالته بسبب وضع صحي لا يسمح له بالاستمرار العمل.
توجد إشكالية عندنا في العلاقة بين وزير العدل والقضاة، فكثير من وزراء العدل يعتقدون أنهم مسؤولون عن السلطة القضائية، مع أن الصحيح هو العكس. فالوزير هو المسؤول عن خدمة القضاء ماليا وإداريا وتنفيذيا، وهذه الخدمة لا تجعل له يدا عليا على القضاء.
نريد أن نسمع من وزير العدل ومن القضاة ومن رئيس المجلس القضائي، ما سبب هذه الأزمة وهل الحل هو بقبول استقالات أو إقالات؟ حسنا من حقنا أن نعرف لماذا يستقيل أربعة من أعلى القضاة درجة؟ ولماذا يحتج أكثر من مائة قاض؟
نفهم أن يكون عندنا تراجع في الديمقراطية والسياسة وتراجع في الأوضاع الاقتصادية، لكن لا نفهم، ولا نقبل، أن يكون عندنا تراجع في الثقة بالقضاء، فقد ظل القضاء منذ تأسست الإمارة، وحتى في ظل الأحكام العرفية، محافظا على استقلاليته، ولا يقبل أن يمس اليوم.
ليس من أجل المواطن فقط، بل من أجل المستثمر الأجنبي الذي لا يبحث عن غير القضاء المستقل النزيه، ولا تغريه كثيرا حملات العلاقات العامة التي يسهل اختبارها. فالذين يضعون أموالهم في البلاد لا يعدون دوريات الشرطة في الشوارع، بقدر ما يدرسون بعمق مدى استقلالية القضاء وكفاءته ونزاهته. ( الغد )