فلسطين والأردن ومسألة الولاء والانتماء

تم نشره الخميس 24 حزيران / يونيو 2010 06:42 صباحاً
فلسطين والأردن ومسألة الولاء والانتماء
أ.د. كامل ابو جابر

واضح أن أمام الدعوة إلى الاتفاق على منظومة قيم وطنية قومية تسمو على الولاءات العشائرية أو القبلية أو الإقليمية في الأردن تواجه صعوبات جمة يعود بعضها لأسباب تراثية تاريخية راسخة في الذات العربية من جهة ويعود البعض الآخر بسبب ظروف وانتماءات تفتق عنها واقع العرب وواقع القضية الفلسطينية وتداعياتها اليوم.

نجحت العقيدة في الفترة الأولى في صدر الإسلام في طمس النزعة الفردية للشخصية العربية الميالة لتأكيد "الأنا" فسمت بمنظومة قيمها على القبلية والعشائرية والمللية وصهرت لفترة معينة سمات هوية جديدة وشكلت الدافع الرئيسي لا خلف الفتوحات العسكرية وحسب بل في مجالات الأدب والفقه والاجتهاد والعلوم. ولكن سرعان ما تبدلت الحال بعد استقرار الأمور وقيام الدولة الأموية وبعدها العباسية وما تلي ذلك من الدول التي تتابعت بعد ذلك, حيث عادت العصبيات العشائرية والفئوية الضيقة إلى ما كانت عليه وإن كان بدفع جديد.

والنظام الإمبراطوري الذي حكم المشرق العربي منذ ذلك التاريخ إلى ساعة انهيار الإمبراطورية العثمانية عام ,1917 أفسح المجال لا لعودة الانتماءات الفئوية وحسب, بل تغذيتها كذلك. فالنظام الإمبراطوري بطبيعته وتكوينه من أقوام ولغات وأجناس وأديان متعددة كان بعيداً كل البعد عن الحياة اليومية للإنسان العادي, وإن كان مطلوبا من الإنسان العادي والمنخرط بالطبع ضم ملته أو نحلته في النظام المجتمعي الفسيفسائي للمجتمع إلا استمرار ولائه السياسي للخليفة أو السلطان. أما شؤون حياته الأخرى الاقتصادية والمجتمعية وحتى السياسية, فكانت جميعها ضمن ملته, فالولاء السياسي كان للسلطان, أما المجتمعي فكان للملة او العشيرة او النحلة. ومن المهم الإشارة إلى أن الولاء الملي أو العرقي أو القبلي ممتد على امتداد الملة أو العرق او القبيلة وهكذا فهو بطبيعته عابر للحدود رافض لها أصلاً حيث امتدادها على مدى عقيدة الملة أو النحلة أو القبيلة بغض النظر عن الحدود.

قامت الإمبراطورية العثمانية بالحفاظ على نظام الملة هذا حتى لحظة انهيارها حيث كان لديها (18) ملة لكل منها قانون أحوالها الشخصية ومحاكمها, والشؤون المجتمعية المتعلقة بإيقاع حياة الجماعة مجتمعيا واقتصادياً وغير ذلك. ولعله ليس من قبيل الصدفة أن لبنان اليوم يحتوي على (18) ملة لكل منها مجالسها ومحاكمها ومؤسساتها التي تنظم حياة الفرد والجماعة وأهلها حسب منظومة قيم تشكل الإطار العام لحياة الإنسان مع الفارق الجوهري المتعلق بغياب الولاء السياسي لدولة الخلافة. وقد حافظت الدول المشرقية العراق وسورية والأردن وفلسطين على النظام الملي هذا مع ضرورة الإشارة إلى أن جاذبية وقوة ونفوذ الملة يزداد أهمية كلما ضعفت الدولة المركزية حيث من الملاحظ ظهور وسطوة الولاء الملي أو الاثني لحظة انهيار السلطة المركزية في العراق بعد الاجتياح الغربي لهذا البلد عام .2003

البحث عن كيفية تكوين ولاء وانتماء وقناعات تسمو على الولاءات القديمة أو الإقليمية الحديثة يواجه عدداً من الصعوبات بعضها ظاهر للعيان وبعضها غير ظاهر, وإن كانت أبعاده أقوى من الظاهر. لمن مثلاً كان الولاء في عهد الدولة الأموية أو العباسية? وهل كان الفرد يُعرف نفسه بأنه أموي أو عباسي? ولربما اخشيدي أو حمداني أم أنه عضو طبيعي له مكانه في جسد الأمة ككل? وهل فكر الإنسان في عصر الدولة الفاطمية أنه فاطمي, أم ان الولاء كان لفكرة دولة الخلافة الإسلامية? وللأمر علاقة بموضوع شرعية الحاكم العربي اليوم -الذي رغم كفاءته وحسن أدائه -أحياناً- لا يتمتع بمقدار الشرعية التي كانت لمنصب الخليفة.

رغم ان الدولة الإمبراطورية كانت مترامية الأطراف وبعيدة عن التدخل في حياة رعاياها إلا أن أحداً ما كان يفكر بالتساؤل عن شرعية وجودها أو شرعية الخليفة. وقد ساد في ظل أجواء الحكم الإمبراطوري مفهوم ان أرض الله واسعة, بحيث يمكن للإنسان العادي أن يتنقل من منطقة لأخرى من دون الإحساس أنه انتقل من مظلة دولة الخلافة او من دولة إلى أخرى. ومثل هذه السعة والرحابة الجغرافية للإمبراطورية شكلت حاجزاً ذهنياً وجغرافياً لمسألة الولاء لقطعة أرض لها حدود معينة شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. مثل هذه الحدود حديثة العهد واجهت حين رسمت خرائطها في أعقاب الحرب العالمية الأولى وتواجه اليوم, وإن كان بشكل متناقص صعوبة في الرسوخ في وجدان الإنسان العربي.

ويعزز صعوبة الاعتراف الوجداني بالحدود الجغرافية ووصفها أنها "مصطنعة" فكر وحال البداوة اللذان استمرا في بعض بلدان المشرق العربي إلى عهد قريب. ومن مظاهر البداوة الفكرية الرفض التلقائي حتى للكثير من المثقفين العرب بوجود هذه الحدود والحنين اللامحدود وأحياناً اللامنطقي لما كانت الحال عليه بالسابق.

مثل هذا الحنين يفسر كذلك وإلى حد بعيد, صعوبة تشكيل أحزاب سياسية عراقية أو سورية أو أردنية ويسر انتماء العربي إلى الأحزاب العابرة للحدود أن كانت قومية أو حتى أممية. ولنتذكر حتى ان اسم الدولة لم يرتبط بقطعة أرض معينة ذات حدود معروفة. فالحدود بمفهومها الجغرافي كقياس مساحي لم تكن معروفة وهكذا يقول التاريخ أن المعتصم مثلاً كان يدافع عن تخوم الدولة. فما هو مفهوم التخوم وهل كانت حاجزاً فاصلاً بين دولة وأخرى أم مجرد حالة ذهنية, حيث هل يشكل تقدم "التخم" لنقل مئة كيلومتر أو تأخر مثلها فهل كان هذا يعني افتئات على سيادة الدولة? مثل هذا الأمر ينطبق كذلك على الأحزاب العابرة للحدود التي وجدت صدى لها في ذات الانسان العربي الأمر الذي دفع مفكراً مثل ساطع الحصري أن يسأل عن تعريف من هو العربي ولا أدري مثلاً إن كان مثل هذا السؤال مطروحاً في فرنسا أو اسبانيا او غيرها من الدول الغربية أو غيرها.

تراث البداوة القوي والنافذ حتى إلى وجدان أهل المدن المشرقية العريقة كبغداد ودمشق وحلب وحمص وعمان اليوم, رافد قوي من روافد مفهوم "أرض الله واسعة" فالناس حتى في هذه المدن ما زالت في حالة الانتقال حيث لم ترسخ بعد مسألة الكفاءة والفردية والاعتماد على النفس والدولة في احتساب الزمن أو المسافة. مثل حالة الانتقال هذه التي تشوبها حيرة بسبب تراكم وتزاحم الولاءات أمر لا بد من أخذه بعين الحسبان حين التفكير بمنظومة ولاء تسمو على كل شيء وتمكن الإنسان أن يقدم نفسه فداءً لها.

فالأرض بالنسبة لمثل هذا التراث مرتبطة بالمرعى الذي سرعان ما ان يتم استهلاكه حتى تنتقل المضارب إلى مكان آخر حيث القيمة إذن ليست للأرض نفسها وإنما فقط لما تنتج مما يفسر إلى حد بعيد المثل العربي الدارج "مطرح ما ترزق الزق", أي أنه انتماء الفرد لمصدر رزقه ومرعاه.

وإذا ما أضيف إلى العوامل السابقة أن الثقافة السياسية العربية التي تكونت في العصر الحديث جاءت في ظل الاستعمار الذي قسم "ارض الله الواسعة" إلى دول لا زال البعض يصفها بالمصطنعة, وهكذا, ارتبطت الوطنية بمقاومة الاستعمار الذي كان هو الدولة لتبدى لنا مدى الصعوبة التي تواجهها الدولة العربية الحديثة لتأكيد شرعيتها ومكانتها في وجدان مواطنيها.

في ضوء ما طرحت يتبادر إلى الذهن سؤال لا بد من طرحه وهو هل هناك هوية أردنية تلتف حولها جميع الفئات من مختلف أصولها ومنابتها لدرجة تجعل الفرد مستعداً لتقديم حياته للدفاع عنها? والسؤال في غاية الأهمية, والخطورة في ضوء ظني أن صراعنا مع الصهيونية ما زال في بداياته وأنه أوسع وأعمق من الصراع على فلسطين الجغرافية, وأننا حتى لو رغبنا في مهادنتها إلا أن مخططها واضح في ذهنها وأنها لن تتركنا وشأننا حتى لو رغبنا بذلك. ثانياً: أن الولاء لفلسطين وقدسها ومقدساتها وموقعها الجغرافي ليس حكراً على الفلسطينيين, فهو ولاء لا مثيل له في العالم بسبب خصوصيته ورمزيته لكل إنسان عربي ومسلم. ثالثاً: إن البحث عن ولاء وهوية تعلو فوق الإقليمية والمصالح الضيقة ليصبح ولاءً يعمل على طمس هذه, ليضع فلسطين ومسألة تحريرها وعودتها إلى العرب والمسلمين أمرا في غاية الخطورة. مثل هذه المنظومة المنشودة لا تنفي ويجب ألا تنفي ولاء الفلسطيني أو الأردني أو غيره إلى فلسطين بل يجب أن تغذيها وتعززها, بحيث يصبح كل فرد جاء من الطفيلة أو الكرك أو السلط أو الخليل أو نابلس فلسطيني لأجل فلسطين وأردني لأجل الأردن. ولعلنا نتنبه إلى التجربة الأمريكية في هذا الصدد, حيث لا يشاهد المرء أي تضارب بين ولائه المفرد لقوميته مع ولائه لأمريكا, وبحيث نجد من يعرف نفسه أنه ايرلندي أمريكي أو بولندي أو ايطالي أو اسكندنافي أمريكي.

وإذا ما تمكنا من تطوير مثل هذا المفهوم لخطونا مسافة جيدة نحو الاتفاق على منظومة القيم المنشودة التي أعتقد أنها في هذه الفترة الزمنية الراهنة آخذة في الظهور, بحيث تشاهد السوري أو العراقي أو الفلسطيني او الأردني يؤكد سوريته أو عراقيته وإن كان مثل هذا التأكيد يتم على استحياء أحيانا. والأمر على أهمية قصوى بالنسبة إلى الأردن لا على مدى المستقبل المنظور فحسب بل وعلى المدى البعيد كذلك, وبالذات إذا تمكنا من الاتفاق على الهدف الرئيسي والأساسي وهو ضرورة عودة البلاد إلى أهلها.

الخسارة فادحة للجميع إذا لم تتطور مثل هذه المنظومة من القيم التي تسمح بتعدد وتراكم الأفكار والاجتهادات والولاءات ولكن ضمن الإطار الفضفاض الذي يسمح بذلك, وبحيث نعلو جميعاً فوق مسألة المحاصصة والمماحكة التي لا تفيد إلا إسرائيل. والأمر بحاجة إلى بحث وحوار صريح مفتوح وإلى صبر وأناة ووقت لينضج ويتطور.

مرة أخرى, سهل إقامة نظام ولكن صعب جداً تطوير مفهوم قومية أو أمة. (العرب اليوم )



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات