الفوضى البابلية !

تم نشره السبت 26 حزيران / يونيو 2010 03:25 صباحاً
الفوضى البابلية !
خيري منصور

ما يبدأ على استحياء وكأنه عورة يجري التستر عليها في خريف الأمم ينتهي الى ظاهرة شعارية صاخبة، لأن متوالية الانحطاط وفقدان المناعة بوتيرة تهدد بأنيميا حضارية شاملة تتيح لما كان مؤهلا ان ينفجر، تماما كما يتيح المرض المفاجئ لكل ما كان هاجعا من الفيروسات ان ينشط، وقد يكون المثال الأقرب بل الأمثولة قدر تعلقها بالعرب المعاصرين ظهور عملاء الاحتلال وجهرهم بما كانوا يتسترون عليه ويخجلون منه عندما ترفع الرايات البيضاء، ويحكم المحتل قبضته على البلاد والعباد. ان لحظات الهشاشة والاندحار هي المناخ النموذجي لقياس منسوب الجودة والرداءة لأن من يقبضون على الجمر في تلك اللحظات الحرجة هم الذين قرروا منذ البدء ان لا يعودوا من منتصف الطريق حتى لو انعدم فيه الزاد والماء والرفيق، كما يقول ازرا باوند، والعقدان الاخيران من تاريخنا العربي المعاصر تقطر فيهما ما سبق له وأن تكثّف من الزّفير، ومن مختلف الاكاسيد الخانقة، فكانا الى حدّ ما اشبه بقيامة عاجلة لكنها وهمية، لم يعد فيها الموتى الى الحياة، بل تحوّل فيها الاحياء الى موتى بلا قبور، او مجرد امعاء تسعى كالثعابين.
قبيل سقوط عاصمة يكون عدد من هيأوا أنفسهم لاستثمار دم الاخرين ودمعهم كالبقّة اقل عدد بأضعاف من العدد الذي يظهر بعد السقوط، لأن الاحتياطيات كلّها تنتهي، ويظهر العطن لاكله بعد ان تزول القشرة الهشة التي تنتج إما عن الخوف او الخجل او الشك في ان السقوط عابر او مجرد كبوة، وقد مهّد لهذه الثقافة الامتثالية التي ترتهن للغرائز والضرورة عزف كان منفردا على وتر الحاجة، ثم تحول الى اوركسترا تبحث عن مايسترو لأن لكل عازف ليلاه التي يغني لها او عليها، هكذا أصبح شعار بالخبز وحده يحيا الانسان هو صانع مفاعيل الحياة ومجمل دينامياتها، وضاعف انفجار المكبوتات الخمسة المزمنة والمؤجلة في تحويل الأبقار والاشجار كلها الى اشباح سوداء في هذا الليل، ولا أظن ان المقولة الهيجيلية عن تشابه الاشياء والكائنات في الظلام مجرد توصيف حسّي بقدر ما هي مأهولة بالممكنات التي تقبل التأويل الى ما لا نهاية، ويبدو ان نبوءة جورج اورويل السوداء في روايته 1984 لم تتحقق في موسكو او براغ، بقدر ما وجدت لها في الواقع العربي مجالا حيويا، فالحب أضحى كراهية، مثلما تحولت الحرب الكاملة الى سلام ناقص، ومثلما تحول الاحتلال الى تحرير، والخضوع الى تأقلم عقلاني، فالانحناء لم يكن من أجل مرور عاصفة لأنه استمر بعدها حتى لامس الجبين القدمين !
في هذه الغابة التي خلت من أي طريق، وعصف بها خريف سياسي وثقافي بكل ما لديه من أعاصير، عاد السوفسطائية بثوب آخر، لكن بروتوغراس العربي لم يتجرأ بعد على اعلان اسمه، باعتباره مقياس الصواب والخطأ، وأن الخبرة البشرية كلها أصبحت مجرد حمولة باهظة يجب التخلص منها، هي فوضى بابلية بامتياز تكنولوجي، وحالة من انعطاب البوصلات السياسية والاخلاقية، بحيث أصبحت كل الجهات جهة واحدة، وعلى المرء في هذه الحفلة التنكرية ان يبحث عن قناع مناب كي يتناغم مع السيّاق او ان يشرب من نهر الجنون، كما تقول الحكاية، كي يستطيع مواصلة الحياة ولا يتم اقصاؤه وافراده كبعير أجرب او عنزة سوداء في القطيع .

* * * * * *
المقترب السايكولوجي هو الأجدى وربما الأدق لاستقراء هذه المشاهد التي تزاوج بين الكوميديا والتراجيديا، ويكاد الخط الفاصل بين المضحك والمبكي ان يحذف، فالضحية تناست جلادها تماما وبدأت تعض بما تبقى لها من اسنان الضحية الاخرى المسجاة الى جوارها، لأن العمى أصبح وبائيا ولم تعد حتى تلك المقايضة بين الكسيح والضرير ممكنة، لأن الكسيح ايضا اصابه العمى، مثلما بلغ الشلل الأعمى الذي يحمله على كتفيه، ولم يعد هناك حتى طريق !
اذن لا بد للمرء ان ينأى قليلا عن اللوحة وان لا يتفلطح أنفه عليها بحيث تختزل الى بقعة داكنة، وهذا يتطلب قدراً من الانفصال عن المدار وقدراً من الخروج عن السرب لأن المستغرقين في المشهد لا يشعرون بالبلل ولا تصيبهم القشعريرة التي يصاب بها من يقف قاب موجتين فقط من الغرق المحتّم، والتجلي الثقافي بل المعرفي لهذا الوضع أصبح الآن مرئيا بالعين المجردة، فما يطفو هو الأخف، والأقل تشبثا واتصالا بالجذور، والعالقون بالحداثة وما بعدها ليسوا هنا وليسوا هناك، انهم مجرد عامل مساعد في هذه الكيمياء المجنونة، يخدمون العناصر الأخرى وتفاعلاتها ويعودون الى أرصفتهم سالمين! فمن لاذ بالعدميّة من دون ان يعيها لخّصها لنفسه ببطالة تقترن بالشكوى وتوزيع الادانات لكن على طريقة مجانين سارتر الذين يفرطون في استخدام الضمائر العائدة الى الغائب وواو الجماعة المُبهمة! تماما كما عرفت ستينات القرن الماضي، طفيليين تذرّعوا بالوجودية لكي يتحولوا الى كَلبيين، لأن مراحل الانحطاط تتيح للبثور كلها ان تظهر على سطح الجلد ولا يعي العدمي الأخرق من أية فلسفة غير عرض جانبي يتيح له الفرار من عصره ويبيح له اقتراف كل ما يشتهي بنزعة عضوية خالصة، هكذا نسمع شاعرا يجعجع طيلة الوقت وتعلو اصوات ورشته الكلامية لكنه لم ينجز حتى منديلا ورقيا.. ما دامت العدّة الجديدة للإنجاز هي خلع الاشجار القديمة من جذورها، والبص في الآبار على طريقة بيريلوك الذي كان من غلاة الحداثة وانتهى الى مؤلف لكتب عن الطبخ، وان كان لا أحد يتذكره الآن الا على سبيل الاستطراف اذا ذكر اسم بوشكين الذي كان يلعنه طيلة الوقت او اسم ماياكوفسكي الذي تورط باحدى قصائده ولم يَعُدْ !
في هذه الفوضى التي اوشكت على الاكتمال لتصبح نظاما معكوسا كما يحدث لعقارب الساعة عندما تسير الى الوراء بانتظام، لا بأس ان يصهل الفأر او يموء الأرنب، فالحفلة تنكرية الى الحدّ الذي لا يبدو فيه شيء على حقيقته، وهي لم تستمر كما يحدث لمثيلاتها ليلة او حتى عقدا، انها الآن نظام بديل لحياتنا، فلا بأس اذن اذا انسحب الأسد من الغابة، لأن الكلب قيّده والقرد حلّ رباطه وحرّره ...!

* * * * * * *
في الهامش المهجور، والمنسي تماما، يستطيع أي أحمق ان يقف امام مرآته ليؤدي التحية لنابليون بونابرت، ويستطيع ان كان شاعرا ان يرى في مرآته رامبو او فيرلين او اليزابيث درو، لكن لن يشاركه أحد هذه القناعة ما دام النقد ينعم في عطلته الطويلة والناس في مكان آخر، والدولة تبحث عمّا يطيل عمرها في غرفة الانعاش !
السوفسطائية الجديدة لا تعلن حربها على سقراط فقط، بل على نفسها ايضا، لأنها عتبات لا تفضي الى بيوت، وصواب خاطئ بقدر ما هو خطأ صائب، فالمقياس معدوم، ومن يتوهم بأنه أول من غنّى كمن يتوهم بأنه اول من ولد على سطح هذا الكوكب، كلاهما مصاب في صميم العقل والوجدان معا، وما كان ينظر اليه على انه مجرد مراهقة او عصيان موسمي، تحول الى انتحار بطيء، وما كان يسميه فرويد جريمة قتل الأب أصبح مجزرة وقبرا جماعيا للعائلة كلّها !!!

القدس العربي



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات