ثقافة الاستحقاق!!

ثقافتان لا بد من التوأمة بينهما من أجل التأهيل المدني للانسان ، ثقافة المساءلة وثقافة الاستحقاق. وهذا ما فطن اليه الحالمون بالتغيير وتحويل الرعايا الى مواطنين منذ الماغناكرتا البريطانية مرورا بالعقد الاجتماعي لروسو وليس انتهاء بالاطروحات الاكثر تداولا الآن حول المجمع المدني.
المساءلة تعبير مزدوج عن وعي الانسان بما يجري له ومن حوله وعن تحميله مسؤولية ما يحدث لاطراف معينة ، وبدونها تبقى الاسئلة والهواجس عائمة ومجرد بوح قد يريح النفس ، لكنه يضاعف من تفاقم المشكلة ، اما ثقافة الاستحقاق فهي تبدأ من اعتراف لا بد منه بأن الحق الاعزل قد يضيع بمرور الوقت ، وان المثل القائل بأن اي حق ان لم يكن وراءه مطالب به قد يضيع لم يأت جزافا بل تقطر من خبرة بشرية طويلة ، فما أكثر الحقوق التي ضاعت وما أكثر الضحايا الذين جعلوا جرائم قتلهم كاملة بصمتهم المتواطىء، والاستحقاق هو المعادل الموضوعي للشعور بأن هناك حقوقا يجري هضمها وتسريبها ، وبالتالي لا بد من المساءلة كخطوة اولى لتحديد المطلوب ، ومن يثرثرون على مدار الساعة حول الديمقراطية وحقوق البشر يغيب عنهم ان حرق المراحل في مثل هذه القضايا الكبرى غير ممكن ، وانه ما من ديمقراطية تستولد بأنبوب ، والشعوب التي تنعم الآن بالديمقراطية أو بقدر منها دفعت مهرا غاليا واستكملت النصاب الحضاري الذي لا بد منه قدر تعلق الأمر بالحريات ، التي تؤخذ ولا تعطى،.
ويبدو ان ثقافتي المساءلة والاستحقاق تحولتا الى مديونية بالنسبة للعرب المعاصرين ، لأن الاحفاد يدفعون ثمن صمت الاجداد وما كان يجب فعله قبل قرن يمارس الآن على استحياء ، واحيانا بمراوغة سياسية على طريقة امساك العصا من الوسط ، المساءلة نقطة انعطاف وتحول في مسار أي شعب ، لأنها تخرجه من طور الشكوى والمونولوج الى طور آخر ، يصبح فيه شريكا في صياغة مصيره وليس متفرجا على هذا المصير تحت المطرقة.
واحيانا يؤدي الشعور بالاستحقاق الى مساءلة وليس العكس ، خصوصا اذا بلغ الانسان رشده التاريخي والسياسي وليس البيولوجي فقط ، وسيظل الكلام العام عن الحريات ومفهوم المواطنة مجرد ملء لفراغات اذا عزل عن هاتين الثقافتين ، فما يخلق الرغبة والحاجة الى التغيير ليس الشقاء فقط ، بل الوعي به ، وبالتالي بأسبابه ، لهذا هناك كائنات تاريخها كله مفعم بالدموع لكنها لا تتغير ، لأن لديها مفاهيم معلبة حول التاريخ والتطور والاستحقاقات الانسانية.
لكن كيف تبدأ هاتان الثقافتان ومن أي مصدر؟ فالاعلام السائد والمعولم ليس معنيا بهما ، وثقافة الامتثال المضادة للتغيير بالمرصاد لهما ايضا.
أخيرا.. لا يستحق من لا يسائل ولا يسائل من لا يشعر بالاستحقاق،،.(الدستور)