الجوع حقّا كافر

رغم الإجراءات القانونية والأمنية المشددة، التي تتخذها الدولة، ردعا لسماسرة الألم وتجار الدم والمقتاتين على جراح وعذابات الآخرين، ورغم الحملات التوعوية المستمرة، التي تهدف إلى تشجيع التبرع بالأعضاء، سيّما من قبل ذوي ضحايا الحوادث المرورية، إضافة إلى الفتاوى الشرعية التي تحض على فعل التبرع بالأعضاء البشرية، وتجمع على اعتبار فعل كهذا، من باب الصدقة الجارية التي تستحق الثواب.
غير أن عمليات التبرع من ذوي الضحايا، ماتزال في حدها الأدنى، وفق جهات مختصة، وما تزال مقتصرة على الأقارب من الدرجة الأولى في معظم الأحيان، ما يؤكد أن صورة التكافل والتضامن الاجتماعي، التي نحب أن نعتقد بوجودها في زماننا غير البهيّ هذا، ليست أكثر من صورة وهمية، نتواطأ ضد أنفسنا، ونصدقها من باب خديعة الذات، وتسكين الضمير الجمعي المعذب بعبء التقصير.
كما أن الأنباء، ما تزال تورد بين الحين والآخر أخبارا مؤلمة، تدعو إلى الخجل، عن عمليات اتجار بالأعضاء البشرية، تقوم بها عصابات، تعمل على استغلال الواقع المعيشي المأساوي للشباب، وتوقعهم في براثنها بوسائل الاحتيال والتضليل والترغيب، والعزف على وتر الكسب السريع، كان آخرها حكاية شاب أردني في مقتبل العمر، غير أنه طاعن في الفقر والحاجة، غارق حتى أذنيه في ديون، لم يجد سبيلا للتحرر من وطأتها، إلا أن "يقطع من لحمه"، وقد تم إلقاء القبض عليه مؤخرا، بعد عودته من مصر بكلية واحدة، بعد أن قبض ثمن كليته الثانية 5 آلاف دولار لا غير! يا بلاش !!
لم يكن هذا الشاب مدمنا على الصنف، باع كل ما لديه ثمنا لشمة أو حقنة، ولم يكن مقامرا خسر على الطاولة الخضراء، ولم يكن بلطجيا تورط في مآزق تطلب حلها توفر العملة، حتى إنه ليس حالما يطمح في تأسيس مشروع صغير، يدر عليه دخلا يقيه شر السؤال، ببساطة كان هذا الفتى، ورغم جسامة ما أقدم على فعله بحق نفسه، مقابل ثمن بخس، مجرد ضحية، غلبه الزمان على أمره، وقد ترسخ لديه يقين قرص معدته، بأن الجوع حقا كافر، وإلا ما الذي يدفعه وهو في عز الصبا إلى عطب جسده مختارا، من أجل حفنة قليلة من الدولارات المغمسة بالذل، في امتهان سافر لقيمة الحياة؟!
السؤال الملح هنا، الذي يطرح نفسه بالضرورة، هو كيفية التعامل مع مثل هذه الحالات. أننظر إليه بتجرد القانون وحياديته كمجرم يستحق العقاب؟
أم كضحية تماثل ضحايا حالات انتهاك حرمة الجسد على تعددها؟
بظني، أن ما أقدم عليه الشاب، يمثل جريمة حقيقية بحق نفسه، غير أن للأمر بعداً إنسانياً، لا يمكن غض النظر عنه: فكيف لنا أن نتعاطى مع حالته هذه، في ظل واقع معيشي غير رحيم؟!.