أمثولة الغراب والغروب !!

ستبقى أمثولة الغراب المغرور الى الابد ما دامت هناك نماذج بشرية اساءت فهم العالم بدءا من نفسها ، وتضخمت الذات حتى تسرطنت ولم يتضح الفارق بين الشحم والورم كما قال المتنبي في قصيدة عتاب لسيف الدولة.
غراب الحكاية جاع وفرط بكل الفرص حتى لحظة الغروب ، بعدها سال لعابه على ذبابة أو بعوضة ، انه نقيض الانسان الرواقي الذي تدرب على الاستغناء وقرر ان يجوع ولا يأكل بثدييه ، كما تفعل الحرة ، وقد يكون الغراب تاجرا أو كاتبا أو مجرد انسان عادي ، لكن استحقاقاته تضخمت حتى صدق نفسه ، والانسان الذي يكذب على ذاته لا بد أن يصدقها في لحظة ما لفرط التكرار ، عندئذ يكون ضحية هذا التصديق ، واذكر ان شخصية من هذا الطراز قدمها فيلم سينمائي مأخوذ عن رواية بعنوان "شيء من الخوف" ، فقد اعجب هذا التابع بسيده وحاول محاكاته في كل شيء ، لكن الآخرين لم يشاركوه الوهم ، فانتهى الى مجنون في شوارع البلدة.
لم يكن غراب الحكاية راديكاليا من ذلك الطراز الذي يراهن على الكل او لا شيء ، لأنه لو كان كذلك لتحول الى اسطورة شأن كل كائنات الاساطير التي دفعت ثمن التمرد والعصيان والحرية بدءا من بروميثيوس الاغريقي حتى سيزيف ، واذا كان المرء الذي يعرف قدر نفسه يستحق الرحمة ، فان نقيضه يستحق الشفقة فقط ، لأنه اخطأ حين وزن البصل بميزان الماس والذهب ، واخطأ ايضا عندما ادى التحية لنفسه في المرايا ، مثلما اخطأ وهو يلعب الكرة مع نفسه بلا شبكة ليكتشف ان الاهداف التي سجلها كانت ضده وفي مرماه،.
ان الفارق جذري بين العفة والاستغناء واحترام الذات وبين الوهم باستحقاقات تزينها النفس الامارة بالسوء ، وثمة اناس خسروا كل شيء حتى أنفسهم لأنهم صدقوا أوهامهم ، ووجدوا من يتملق غرائزهم ويورطهم في الغرق ، ولا اظن ان هناك كائنا اكثر تعاسة من نرجس الذي تنسب اليه النرجسية وعبادة الذات ، فقد مات غرقا وهو يحدق باعجاب الى وجهه ، ونسي ان هناك في هذا العالم ما يستحق التأمل اكثر من سحنته الصفراء ، لهذا فالبشر محكومون بثنائية الباب والمرآة.. وهناك من تحركت الابواب لديهم الى مرايا ، فارتطموا بزجاجها ومكثوا حيث هم ، مقابل آخرين قادتهم الابواب الى العالم بكل ما يعج به من أعراس وكوارث ، ومشاهد لا يحول التناقض بينها دون تجاورها واحيانا تزاوجها،.
ان من يعف ويستغني لا يقول في خريفه وعندما يأزف الغروب آه على ذبابة أو بعوضة ، ويفضل ان يموت جائعا ونظيفا ، لكن من افتعلوا العفة واصطنعوا الاستغناء ايهاما لأنفسهم وللآخرين هم من يقال عنهم بأنهم صاموا وافطروا على قشرة بصلة.
ألم يفعل ذلك ثوريون بدأوا مبالغين وراديكاليين ويصنفون العباد في خانات اليمين ثم افطروا على ذبابة؟.
ألم يفعل ذلك ايضا مثقفون أدانوا العالم كله وبرأوا أنفسهم عندما سال لعابهم على رأس سمكة فاسدة؟.
الدستور