صغار الفاسدين وكبارهم

ذات سنة ارتشى مشرف على "ورشة عمل" تقوم بتعبيد شارع بعشرة دنانير "اكرامية" مقابل تعبيد مدخل كراج لمواطن في تلك المنطقة ، على يد صاحب الكراج.
احد الذين شاهدوه يقبض العشرة دنانير ، ابلغ عنه مسؤوله والذي من فرط غضبه ونزاهته قام بتجميده عن العمل ، وتنزيل رتبته الوظيفية ، وحين شكى وبكى المشرف بحث عن "واسطة" لاقناع مسؤوله بأن يغفر له ماتقدم من ذنبه وما تأخر ، فوجد صاحب "سوبرماركت" متكرش وضخم الجثة يعرفه منذ زمن ، وسأله هل تعرف المسؤول الفلاني ، لأن لدي معه مشكلة ، فأجاب بالتأكيد انه يعرفه ، وسأله ما هي مشكلته ، فشرحها له بكل تفاصيلها.
ابتسم صاحب السوبرماركت بثقة لاتخلو من بلاهة ، ورفع سماعة الهاتف على المسؤول العفيف ، وقال له عليك ان تعيد فلاناً الى عمله ، وترد عليه رتبته الوظيفية ، لأنني شخصياً رشوتك بألف دينار ، قبل عامين من اجل تمرير معاملة لي ، وانت تبيع "الشرف والعفة" على المشرف البسيط ، فتعاقبه من اجل عشرة دنانير ، واذا لم تعده الى عمله سأعترف امام الجهات الرسمية بأنني رشوتك بألف ، وانك اخذت الرشوة.
المسؤول اياه ذعر من شدة الخوف ، واعتذر بصوت خافت واعاد المشرف الى عمله ، ليواصل هو الاخر ، قبض عشرات الدنانير ، فيما هو يقبض الآلاف ، وما بين الفساد الاكبر والفساد الاصغر ، تتشكل صورة مريرة اليوم ، بعد ان اخترقت "الرشوة" مؤسسات عديدة ، ولم تعد معاملة تسير على قدميها الا بدفع المعلوم ، او الالماح لاكرامية مقدمة او مؤجلة ، وتسعيرة الرشوات متنوعة ومتعددة ، وفقا لكل حالة.
تشريعات محاربة الفساد جيدة ، لكنها غير كافية ، فقد قيل مراراً اننا نريد احياء قانون من اين لك هذا ، بدلا من انتظار اللص حتى يسقط ، وعندها نسأله عن مصدر ثروته ، وفي الاردن فإن نوعا جديداً من الثراء قد استجد ، ليس له علاقة بالغنى التاريخي للعائلات ، ولا بالاغتراب ، ولاببيع الاراضي ، ولا بالتجارة الحلال ، وهو ثراء غير مفهوم وغير مبرر ، من حيث مصادره.
لم يعد كبار الفاسدين لوحدهم ، فصغار الفاسدين باتت اعدادهم كبيرة ، والجهات المسؤولة لو ارسلت من طرفها من يحمل معاملة فيها نقاط ضعف قانونية مع مبلغ معين ، لاكتشفت ان المعاملة ستمر بكل سهولة ، عبر كل الحواجز ، كفرس جامحة ، وفي لبنان باتت "الرشوة" تسمى حبة "الاسبرين" او "البنادول" كتعبير عن التسكين المؤقت للألم ، وعن القطران القليل مع رغيف الخبز.
الفساد الاصغر اخطر بكثير من الفساد الاكبر ، لانه ممتد وصغير وغير واضح وتحت السجادة ويتخفى بأقنعة كثيرة ، هذا الفساد الذي يبدأ بعشرة دنانير ويصل الى خمسين دينارا ، هو الابن غير الشرعي للفساد الاكبر ، وهو نتاج تزاوج الفقر مع قلة الدين.
لولا "الحيتان" في بحر الفساد لما رأينا سمك "السردين "في كل مكان والتنافس بينهما هو على من يقضم وجه الشعب اكثر.
الدستور