آخر من يعلم !!

المفاوض الفلسطيني، كان في المباشرة مثلما هو الآن في غير المباشرة، يجد دائما من يظهره كآخر من يعلم، ذلك حدث في التاريخ حين كانت مساجلات واشنطن تجرى على شاشات التلفزيون، والمفاوضون الفلسطينيون برئاسة الدكتور حيدر عبد الشافي رحمه الله ، وصائب عريقات أمد الله في عمره، يصلون الليل بالنهار في جلسات الممر وغيره، وهم يظنون أنهم يفاوضون، في حين أن غيرهم كان يضع اللمسات الأخيرة على اتفاق أنجز في أوسلو!
ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه، ولو بصورة أخرى؛ فبالأمس أعلن مصدر أميركي أن المسافة بين المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين قد تقلصت، وأن المحادثات غير المباشرة حققت تقدما، وأن الأمور تمضي على ما يرام.
الغريب أن هذه الأقوال تزامنت مع اجتماع ميتشيل، حامل الملف، رسميا أو علنيا مع المفاوضين الفلسطينيين، حيث يتهم بالشكوى من بخل الإسرائيليين في العطاء، ووعدهم بأن الرئيس أوباما سيضغط على نتنياهو في لقائه المرتقب به، كي يقدم شيئا يساعد على الانتقال من المفاوضات غير المباشرة إلى المفاوضات المباشرة. لم يلتزم المفاوض الفلسطيني بالقاعدة المألوفة عند من لا يملكون من أمرهم شيئا، وهي الاقتداء بالقول "إذا بليتم فاستتروا"، إلا أنه أحب تعميم الفضيحة على أوسع نطاق، إذ أرسل كتابا للإدارة الأميركية فحواه .. قلتم إننا أحرزنا تقدما في مفاوضات التقريب فهل لكم أن تقولوا لنا ونيابة عنا ما هو هذا التقدم على الأقل، من أجل أن نروج له ونغطي أنفسنا به.
إن هذه الواقعة تؤكد أمرين أحلاهما اكثر مرارة من الآخر؛ الأول، ان المفاوض الفلسطيني هو أكثر من يتكلم ولكنه أقل من يعلم، والثاني، أن حاجة الإدارة الاميركية لتصريح كهذا، أملت الإفصاح عنه من دون حسبان الأذى المعنوي الذي يلحق بالمفاوض الفلسطيني وصورته الجليلة على الشاشات وكذلك بحامل الملف الذي وصف بالسلحفاة وهو السيد المحترم جورج ميتشيل.
فما هي حقيقة الأمر. إن المشهد أصبح الآن بحاجة إلى دخول لاعب متكرر كي يفسر لنا أيا من الأمرين نعتمد، وساعتئذ ربما يعرف المواطن الفرق بين البضاعة الحقيقية، ما هي وأين تتداول ومن يتداولها، والبضاعة الفلكلورية التي نراها على شاشات التلفزة، في استعراض انجازات يحققها غالبا من منح بجدارة، وسام آخر من يعلم.
هل هذا هو حال مفاوضات التقريب؟ هل هذا هو مآل الرصيد السياسي الذي جمعه الفلسطيني من عذابه وصموده وتضحياته، رصيد يتآكل كل يوم ويسحب منه كل طرف ما يوافق أجندته وحاجاته. وليس على الفلسطيني المفوض بالتفاوض إلا الإنكار وفي أفضل الحالات الاستفسار، وفي كل الحالات نفخ العضلات على شاشات التلفزيون بأن كل شيء يجري على ما يرام وأن الثوابت ما تزال بخير!!
إن واقعة الإفصاح عن تقدم حدث، ومعها واقعة استفسار المفاوض عن هذا التقدم، تعطي الخلاصة العملية لكل ما يجري وتعطي أرجحية للاجتهاد القائل إن المفاوض على الشاشات هو غير المفاوض في الغرف المغلقة، وما حدث في زمن أوسلو، لا يوجد ما يمنع أن يحدث الآن، فهنالك من يحب ويعشق الظهور على الشاشة ليعلن أنه أول من يتكلم من دون التدقيق في أمر الشق الآخر من المعادلة، وأنه آخر من يعلم كذلك.
إن إنقاذ الموقف أضحى بحاجة إلى تدخل أميركي، ولا غرابة أن نسمع تفسيرا لما حدث، سمعناه كثيرا من قبل، تفسيرا جريئا يقول "آسفون" كان تقديرنا في غير محله. ساعتها ليخرج رجل الشاشة إياه بعد ذلك مزهوا بالمخرج، فيقول : ألم نقل لكم إن الثوابت ما تزال بخير .. وإن الأميركيين اضطروا للتراجع تحت ضغطنا!!!
*عضو المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية