"خليها مستورة"

مسؤول كبير متقاعد في سنّ الخمسين عاد إلى الوظيفة العامّة في مواقع إدارية عليا، وهذا امتياز قد يحسد عليه، لكنه مال عليّ وهمس بأسى "خليها مستورة". وشرح الموقف من زاوية مالية، فهو تقاعد براتب يزيد على الف ومائتي دينار، ولو عمل بوظيفة في القطاع الخاص فسوف يحصل على راتب مماثل على الأقل، فتكون الحصيلة معقولة لشخص في عمره والتزاماته الاجتماعية. لكن بعودته إلى وظيفته العليا الحالية في الدولة يخسر راتبه التقاعدي ويحصل على راتب مساو تقريبا لهذا التقاعد، وكأنه يقوم بخدمة علم!
لم أكن قد انتبهت لهذا من قبل، وفي الحقيقة هناك إجحاف غير معقول، وقيادات إدارية بهذا المستوى لا بدّ ستشعر بالقهر، إذ ترى شبّانا على رأس وحدات تتبع مشاريع أو برامج كبرى للقطاع العام يحوزون على رواتب بأضعاف هذا المبلغ الذي يضع صاحبه في موقف اجتماعي مستحيل.
وليس أقل سوءا من ذلك، التقاعد مباشرة دون الدرجة العليا. فالفارق بين التقاعد بالدرجة الخاصّة والدرجة العليا التي تأتي بعدها مباشرة هو الضعف تقريبا، والحظ وحده (الواسطة هنا تدخل ضمن الحظ!) يمكن ان يرمي بك الى وظيفة أو منصب يعطيك الدرجة العليا فتضمن تقاعدا معقولا هو ضعف ما يحصل عليه زميلك في الدرجة الخاصّة بعد خدمة مماثلة أو أطول.
وبالمناسبة فهذه القضية عولجت في الجيش بالنسبة للفارق الضخم بين تقاعد برتبة عميد ورتبة لواء، حتى لو خدم العميد أربع سنوات، لكن أحيل على التقاعد قبل الحصول على رتبة لواء. ويمكن للحكومة أن تقتدي بهذه المعالجة، وفارق التقاعد بالنسبة للوظائف العليا يصبح مسألة حياة أو موت، ففي هذا السنّ يكون الأولاد في الجامعات والفتيات على أبواب الزواج.
هناك تشوهات وفوارق ضخمة غير مبررة وغير عادلة، وهناك فروق بين موقع وآخر، رغم أن كل المواقع هي في القطاع العام، ثمّ كأن هناك تفاوتا غريبا من قطاع الى آخر في الوزارة نفسها. سمعت من زميل أن مدير دائرة أحوال مدنية طلب المساواة على الأقل مع مديري وموظفي مركز وزارة الداخلية، وقد اهتم رئيس الوزراء بهذا الطلب، الملفت للانتباه، وفي هذه الأيام على وجه الخصوص فإن مديري وموظفي الأحوال المدنية هم من يستحقون علاوات ومكافآت استثنائية، فالمكابدة التي اطّلعت عليها بعيني لا توصف.
هناك كما قلنا إجحاف شديد في العودة بعد التقاعد إلى وظيفة إدارية عليا في الدولة، ولا أدري كيف كان هؤلاء المسؤولون يشعرون وهم يرون النواب يحصلون على تقاعد عن نيابة أربع سنوات سابقة، وفي الوقت نفسه على راتب عن نيابتهم الحالية والحكومة تفكر في إنهاء هذا الوضع الشاذ.
وعلى العموم، وبحساب متطلبات المعيشة الآن ومستوى الرواتب للوظائف القيادية في القطاع الخاص، فإن هيكل الرواتب للمديرين الحكوميين يحتاج حقا إلى مراجعة.