نصوص قصيرة القامة!

تم نشره السبت 10 تمّوز / يوليو 2010 02:52 صباحاً
نصوص قصيرة القامة!
خيري منصور

احيانا تقتادنا مصطلحات شائعة استمدت نفوذها من التكرار فقط لنكتشف أنها تفكر لنا وعنّا، وأنها من البدهيات التي لا تناقش كجدول الضرب في الرياضيات والسلّم الموسيقي. والنقد الاتباعي الداجن والمدرسي هو الأكثر انجذابا لمثل هذه المصطلحات الفوسفورية التي تصيب العين بالزّوغان، وأذكر للمثال فقط مصطلح المعادل الموضوعي في الشعر والذي نحته اليوت بعد استقراء معمّق لمسرحية 'هاملت' لشيكسبير حيث وجد ان هناك خللا في معادلة الشعور والتعبير المبالغ عنه، او ما يمكن تسميته الفائض العاطفي الرّخو، وسرعان ما هاجر هذا المصطلح من نقد الشعر الى ميادين فكرية أخرى لكن ضمن سياقات اساءت فهمه وبالتالي توظيفه. ويعود الفضل إلى الراحل الرائد د. احسان عباس في كتابه 'فن الشعر' الذي قدم فيه تصورا معمقا وتفصيليا لما عناه اليوت بالمعادل الموضوعي.
وثمة سلسلة من المصطلحات التي كرسها النقد الداجن في تعامله الأفقي مع النصوص، منها القصة القصيرة والقصيدة القصيرة، ولفترة امتدت اكثر من ثلاثة عقود منذ نهاية الستينيات في القرن الماضي نشرت آلاف النصوص القصصية والشعرية تحت عنوان القصيرة او المكثفة، رغم ان معظم تلك النصوص كانت قصيرة القامة فقط، اي من حيث الحجم والمساحة اللغوية، وغاب عن النقد الاتباعي المأخوذ بالمصطلحات وضحاياه ان مسألة الطول'والقصر قدر تعلقها بالكتابة لا صلة لها بالحجم او عدد المفردات، تماماً كما ان النص الطويل قد يكون مجرد ثرثرة وإطنابات بلا كوابح، ويمكن له ان يقطّر في بضع كلمات فقط ..وليس النص قصير القامة هو النقيض الفعلي للنص الثرثار، انه توأمه بأكثر من مقياس. وهنا لا بد من التذكير بأن بعض النصوص القصصية والشعرية المترجمة الى العربية لعبت دوراً في التحريض على المحاكاة الشكلانية فقط، وهنا يمكننا التوقف عند تجربتين على الأقل .. تجربة ناتالي ساروت في قصصها القصيرة 'انفعالات' وتجربة الشاعر ريتسوس في اعماله الأخيرة، خصوصاً تلك التي ترجمها سعدي يوسف بإخلاص. ان قصة قصيرة واحدة ومن صفحة واحدة لساروت بعنوان 'رغوة الوقت' تصلح نموذجاً للقصة القصيرة المقطرّة من غيمةٍ حبلى بشتاء كامل، فالنساء اللواتي يقضين الوقت على شرفة في شرب الشاي والنميمة يعلكن الوقت، واحياناً يستعصي على الذوبان فيصبح اشبه باللبان، الذي يتضاءل ويصغر، وان كان المثال الآخر الذي تورده ساروت هو قرص النعناع الذي يتلاشى في اللعاب .. سوف نجد عدة قصص قصيرة كتبت بالعربية على هذا الغرار لكن من الناحية الشكلية فقط، كأن يختزل مشهد مألوف في حارة يرصده شخص يقف على نافذة، فيبدو مشهداً مكتفياً بذاته وغير قابل للتأويل او اثارة الخيال للمضيّ الى ما هو ابعد منه. وباستثناء قصص زكريا تامر المبكرة التي لم تكن محاكاة أو صدى باهتاً لما هو مترجم يندر ان نعثر في تلك الفترة على قصص قصيرة بالمعنى الفني الدقيق.
واذكر ان الناقد خلدون الشمعة نشر مقالة عن قصص تامر القصيرة اشار فيها الى نقطة بالغة الأهمية، هي استبدال العناصر التقليدية في القصة الكلاسيكية بعناصر جديدة في مقدمتها الايقاع، وسمى خلدون هذا النمط من القصص قصصاً ايقاعية، ليس بالمعنى الذي تقترب فيه من الشعر، بل لسبب آخر نابع من صميم بنائها السّردي، فاللغة هنا ليست للمشي بغية الوصول بقدر ما هي للرّقص او حركة نافورة.
في الشّعر حدث الأمر ذاته .. قصائد قصيرة كل ما انجزته هو كونها مبتورة، او اشباه جمل، احياناً يكون خبرها مَحْذوفاً، وكانت عبارة النفّري الشهيرة 'كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة' الشعار الأكثر تداولا في هذا السياق، رغم ان الكثير مما كتب مستوحى من دلالاتها كان اقرب الى ضيق الرؤى واتساع العبارات.

' ' '

وصف ناقد القصة القصيرة بأنها القط لأنها من فصيلة ينتسب اليها الأسد، والأسد حسب هذا التصور البيولوجي هو الرواية، وكان بإمكان هذا الناقد السّنوري ان يذهب الى ما هو أبعد ويصف القصة بأنها عطسة اسد كما هي القطة عطسة أسد. لن تغوينا هذه التداعيات بالذهاب بعيدا عن موضوعنا، فالأنواع الأدبية ليست سلالات تنتظر نقدا داروينيا يعثر على الحلقة المفقودة فيها، خصوصا بعد أن اصبح ما سماه رولان بارت الكتابة في درجة الصفر ابداعا عابرا للانواع والتّصنيف الكلاسيكي الذي يلوذ به الذهن الكسول كي لا يجازف في المغامرة. وحكاية القصر والطول لا تصلح لقامات النصوص اذا كان الاحتكام الى المسطرة وحدها، فثمة رواية من اربعمئة صفحة هي في حقيقتها قصة بالغة الطول، تماما كما ان هناك رواية من خمسين صفحة فقط، وهناك تجربة طريفة كلّف بها سومرست موم ذات يول لاختزال روايات كبرى من طراز 'الاخوة كارامازوف' و'البحث عن الزمن الضائع' و'الحرب والسّلام'، ووجد سومرست موم ان اختصار تلك الاعمال ليس صعبا.
وهذا ما حاولت تكراره مؤسسة 'ريد بوك' ايضا وان كان هناك من اعترضوا وسيواصلون الاعتراض على حذف فاصلة واحدة من تلك الروايات، وان كان هناك تعريف تقريبي واولي للنّص القصير المقطّر من غابة، فهو ان هذا النص الذي تستغرق قراءته دقيقة واحدة يدفعنا الى التفكير في ابعاده وتجلياته وقابليته للتأويل اياما وربما اعواما بعكس النص قصير القامة فقط الذي لا يقرأ اكثر من مرة واحدة لأنه لا يعادل فكريا وفنيا اكثر من عدد مفرداته!
ان غواية المصطلحات هي ما أسقطت هواة المحاكاة الشكلانيين في افخاخها، وان كان لا بد من مثال آخر، فليكن ما سمي الرواية الجديدة او الرواية المضادة حسب تعبير لسارتر، وان كان ابرز رموز هذا التيار، وفي مقدمتهم ألان روب غرييه، يرفضون تأطير محاولاتهم في مصطلحات، فالرواية كما قال غرييه مرة هي كما يكتبها لا اكثر ولا أقل. وفي هذه الروايات نعرف ان البطل هو الشيء لا الكائن، وقد حل المكان في حيّز الزمان، وما كان لمحاولات كهذه ان تظهر في فرنسا بالتحديد لولا ذلك المناخ الذي اشاعته الظاهراتية او 'الفينومونولوجيا' بدءا من هوسرل، فالابداع الأدبي ليس فطريا كالنّحت او الأغنية الشعبية التي تنسب الى جيل وليس الى فرد بعينه.
والاعمال الروائية التي صنّفت تحت عنوان الوجودية ما كان لها ان تكون على النحو الذي كانت عليه لولا ذلك المناخ الفكري المشبع بأطروحات الوجودية، وبتأثير واضح من احداث النصف الاول من القرن العشرين وأبرزها حربان عالميتان خلخلتا منظومة القيم التي كانت سائدة، وكانتا رحما لولادة تيارات فكرية مفعمة بالشكوك والعدمية ومساءلة التاريخ بكل ما انتهى اليه من وحشية ..
ان المصطلحات التي تستمد صدقيتها وشرعية استخدامها من التكرار فقط تحتاج الى اعادة فحص، خصوصا في زمن كهذا تكاثرت فيه الببغاوات البشرية واوشك الهديل فيه على الانقراض!

القدس العربي



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات