عندما ننظر في المرآة

عودة السجال السياسي حول الوحدة الوطنية وتراشق البيانات وتحشيد المواقف، كل ذلك يؤكّد أنّ مشهدنا السياسي أصابته آفة "الدوران حول الذات"!
في خطابه الأخير رسَّم الملك الخطوط النهائية، وحدّد "أين تقف الدولة" من السجالات التي تملأ فضاءنا السياسي والإعلامي. وكان يفترض أن تتجاوز أصداء الخطاب لدى الجهات الرسمية تكرار ما جاء فيه إلى بناء قراءة دقيقة وجادة للأسباب والفواعل التي أدت إلى صعود "الهويات الفرعية"، التي تهدد "السلامة الوطنية" والنسيج الاجتماعي.
بخلاف ذلك، جاء الصدى الأبرز للخطاب عبر بيان مجلس الأعيان، الذي تولّى مهمّة شرح مضامين الخطاب الملكي، فيما اتخذت الحكومة قراراً بتوزيع مضامين الخطاب على المؤسسات الرسمية، ولاحقاً صدر بيان من المجلس الاقتصادي الاجتماعي يؤيّد فيه الخطاب الملكي، وكأن المطلوبَ سيلٌ من البيانات السياسية و"كفى الله المؤمنين القتال"!
السؤال المسكوت عنه الذي لم تنتقل الاستجابة الرسمية لمناقشته هو لماذا برزت "الهويات الفرعية" بهذه الصورة السافرة، وكيف نردّ الاعتبار للهوية الوطنية الجامعة؟ وما هي الهواجس والمصالح التي تقف وراء حالة القلق الداخلية التي تولّد هذه الأزمات؟!
الحلقة المفقودة اليوم تكمن في غياب الحوار الوطني العقلاني الهادئ، بمبادرة من الدولة أو النخب القيادية، عن المسار السياسي، وعن خطورة تعثّر الإصلاح الذي أدى إلى كل هذه الأزمات والمشكلات.
ذلك أنّ المعضلة التي تغطس وراء أغلب المخاوف التي تهزّ الشعور العام بالأمن المجتمعي والاطمئنان للمستقبل هي غياب توافقات وتفاهمات وطنية عامة على تحديد المستقبل السياسي للبلاد، ما يسمح بـ"فراغ" تدخل منه الدعوات المأزومة والعصابية، وترتفع فيه حدّة التوترات والأزمات الاجتماعية.
تلك التفاهمات الوطنية من المفترض أن تكفل وضع خريطة طريق لإصلاح سياسي بنيوي، يمكّننا من تمتين "المنطقة الوسطى" في المجتمع وتعزيزها بنخب سياسية تقوم على تجديد خطاب الدولة وتسويقه داخلياً وخارجياً، وهو ما نفتقده اليوم بصورة واضحة، تحت وطأة عجز النخب الرسمية الحالية وضعف قدرتها على المبادرة السياسية.
علينا أن نرقى إلى مستوى عالٍ من النقاش يليق بدولة ومجتمع متحضّرين، ويبتعد عن "العُصابية السياسية" إلى التفكير الواقعي الهادئ العقلاني بمصالح الدولة والمجتمع، وبخياراتنا المستقبلية في المجالات كافة، وبتوسيع دائرة الحوار والشراكة السياسية، فأي مواجهة لخيارات صعبة مستقبلاً، لا بد أن تكون محصّلة حوارات داخلية هادئة ومدروسة.
أحد المعايير، التي يجدر أن نضعها أمامنا، هو لو قدر لنا أن ننظر إلى أنفسنا في المرآة، كيف ستكون الصورة؟! هل نحن مجتمع يمضي إلى الأمام ويدرك ما يريد؟ يفكر جيداً في مستقبله وفي تأمين الطريق للأجيال المقبلة، فلا تجد نفسها أمام استحقاقاتٍ موروثة وعُقَدٍ اجتماعية وسياسية ونفسية؟! أم أنّنا ندور حول أنفسنا ونتفنّن في "صناعة الأزمات" وافتعال المعارك الوهمية ونفشل في بناء خريطة الأولويات والتحديات والتهديدات ونسير في عكس حركة التاريخ!
( الغد )