لفرد ليس مسمارا

هناك مراحل في حياة الأمم غير قابلة للحرق ولا بد ان تستكمل نصابها الزمني من التطور العضوي كي لا تكون مجرد اشكال مفرغة من المضمون ، وفي مقدمة هذه المراحل انجاز ما يسمى ثقافة الاستحقاق لدى الفرد ، وأول ما قدمه التاريخ من نماذج لهذا الاستحقاق هو عقود مدنية واجتماعية تحدد الحقوق والواجبات ، وتحول الرعايا الى مواطنين ، وما ان تثار قضية الحريات في عالمنا العربي حتى تعترضنا جميعا تلك الحلقة المفقودة ، وهي تبلور شخصية الفرد ، والاعتراف به ككائن يقبل ويرفض ويحب ويكره ، وبالتالي يعبر عن كل هذه النوازع في الانتخاب بحثا عمن ينوب عنه ، ويعبر عما يدور في داخله ، والحلقة المفقودة في هذا السياق هي ان المجتمعات التي انتقلت من القبيلة ونسيجها التقليدي الى الحزب أو أي شكل من اشكال التجمع تحت شعار واحد لم تتح للفرد ان يتنفس ، فوجد نفسه في الحالتين تائها وضالا ومجرد رقم أصم،.
ونعرف ان عالمنا العربي انفرد بتجارب بالغة الطرافة في هذا العصر ، عندما تحولت بعض احزابه من الأممية الى القومية او العكس في أربع وعشرين ساعة فقط ، ظنا ممن يتوهمون ان التاريخ داجن الى هذا الحد بأن ما يحقن به الافراد لا يجد أية ممانعة من تكويناتهم وثقافاتهم وتربوياتهم.
وهناك واقعة لن أنساها ما حييت تلخص ما أردت قوله ، فذات يوم سمعت من شخص ما كلاما لم استطع فهمه ، وهو يمتدح الامين العام لحزبه الناشىء ، وقال ان ذلك الامين منذر "بالذال" ، وعندما سألته عن معنى هذه الكلمة قال بأنه شديد الذكاء وينذر الحزب بالأخطار قبل وقوعها ، وبعد أقل من دقيقة فقط عرفت انه يقصد بأن امينه العام مُنظًّر ، وهي مشتقة من التنظير والنظريات وليست من أجراس الانذار المبكر ، شعرت لحظتها ان الببغاء قد تصلح لمهن كثيرة باستثناء مهنة واحدة وهي ان تكون عضوا في حزب وان كانت نموذجية بالنسبة لبعض الاحزاب الديماغوجية التي تطلب من الاعضاء ان ينفذوا ثم ينفذوا.. اما المناقشة فهي تخريب مقصود،،.
احزاب كثيرة وربما امبراطوريات دفعت ثمن هذا الاتجاه الواحد والببغاوي ، لأن المطلوب من الافراد ان يرددوا الصدى لما يسمعون فقط،.
الحلقة المفقودة من تطورنا كعرب في سياق المجتمع المتمدن ، هي ما عبر عنه الشاعر الجاهلي ابن قبيلة غزية ، والذي قال ان غزت قبيلته مضى مع غزاتها وان عادت الى رشدها عاد معها الى رشده،.
وكل ما يقال عن الليبرالية بمعزل عن هذه الحلقة المفقودة من الداروينية السياسية هو مجرد ثرثرة لاضاعة الوقت او لاستعراض قراءات مبتسرة ومترجمة لا تعيش اكثر من الدقائق التي يستغرقها الحوار سواء كان في صالون أو على شاشة فضائية او في مقهى،.
ولا أظن ان من أضاع نظارته الطبية يستطيع البحث عنها بدونها ، رغم انه يستطيع البحث بواسطتها عن كل شيء يضيع منه ، والمثقف العربي الآن يبحث عن نظارته بعينه المجردة ، لهذا غالبا ما يعود الى أسرته بسمكة ميتة ولها رائحة اشتراها من بائع على الرصيف ، ليزعم بأنه اصطادها بشبكته ذات الثقوب الواسعة،، ( الدستور )