موعظة نقار الخشب !!

من استطاع أن يحدق في عيني ابنه لأن الاثنين شربا من البئر المسمومة ذاتها ، فلن يقوى على التحديق في عيني حفيده أو حفيدته ، لأنهما لم يتلوثا بعد بثقافة الهزيمة وتربويات المراوغة والنفاق ، ويخطىء من يتوهم بأن عمارة أو قطعة أرض أو رصيدا في بنك يكفي للاعتذار الى أحفاده عن كل ما اقترف هو وجيله من جرائم الصمت واللامبالاة ، والمشي بمحاذاة الجدران والنوم القرفصاء على فرشة تفيض عن مساحتها ساقا قزم.
ان الحكاية أبعد وأعمق من تأمين القادمين على طريقة جحا الذي دفع الثمن بعد فوات الأوان ، ولن أنسى ما حييت تلك القصة التي كتبها البير كامو عن جزائري أسلم أحد ابناء قريته الى طريق مليء بالكمائن كي لا يتعرض لأية مساءلة من المحتلين ، ثم قضى بقية عمره الشقي وهو يسمع صوتا متكررا على مدار اللحظة يقول له ويلك لقد سلمت أخاك ، جميعنا سوف ندفع الثمن.
ونحن نعيش وقتا رماديا ، فقدت الاشياء والكائنات فيه ظلالها وسماتها ، وشح الخجل كما شح الاكسجين ، فأصبح كل شيء قابلا للتصديق ، ولم نعد نرى اشارات تعجب في الوجوه والعيون ، فلماذا لا نحذفها أيضا من السطور؟.
قبل أن يفكر الأب أو الجد بتأمين الابن أو الحفيد ضد الفقر ، عليه أن يؤمنهما ضد الجهل ، وأن يدلهما على الطريق الذي يضمن لهما بقاء ما يمتلكان ، فما قيمة أموال العالم وأبراجه كلها اذا كان من سيرثها عاجزا عن حمايتها ، ومن ورثوا عن أسلافهم قبل ستين عاما ما ورثوا من مال وجاه وأرض ، أين هم الآن؟ وماذا هم فاعلون ازاء هذا السطو المسلح حتى على قبور آبائهم؟.
ان ثقافة "بالرغيف وحده يحيا الانسان" هي المسؤولة الآن وفي كل أوان عن هذه الرؤية العوراء للأمان والمستقبل ، والعربي الذي تتردد في جنبات ذاكرته أصداء تلك العبارة الشجية التي عيرت بها عائشة الحوراء ابنها أبوعبدالله الصغير ، يعرف أن بكاء الرجال لا يعيد الغرناطات الضائعة على اختلاف أسمائها ومواقعها في هذه الجغرافيا العزلاء ، التي يسيل عليها اللعاب من كل الجهات ، ومن لا يستطيع حماية ما يرث سواء كان ماديا أو معنويا هو مجرد حارس مؤقت ، وتلك عبارة قال ما يشبهها هنري كسنجر في سبعينيات القرن الماضي بعد جولته المكوكية التي عبدت الطريق لاسرائيل جوا وبحرا وبرا.
قلما نسمع من يذكرنا بما سوف يقوله القادمون عنا؟ لأننا جميعا هاربون من هذه اللحظة ونحاول عبثا أن نغطيها بورقة زيتون لا بورقة توت ، وما يدور الآن من أسئلة في عقول أبنائنا سوف يتحول الى مساءلات لا تقبل المراوغة بعد غروبنا ، لكننا لا نهتم على الاطلاق بمن سوف يلعننا أو يترحم علينا ، لأننا نعيش حياتنا مقطعة الاوصال كالدودة الشريطية ، ولا نتعامل مع الزمن كسياق متصل أو مع التاريخ باعتباره لن يتوقف عندنا،.
لماذا لا نقول لأبنائنا وأحفادنا كل يوم أن هولاكو أهلك ذلك الحاكم الذي قدم له خمسين صندوقا من المجوهرات ، فقال له هولاكو سأقتلك أنت وأبناءك لأنك لم تشيد بهذه الأموال أسوارا لمدينتك ولم تفكر لحظة بحماية مالك.
ان طائر نقار الخشب هو الوحيد الخائب الذي يبني أعشاشا تستولي عليها الغربان وتفقأ البيض فيها ، لكن نقار الخشب لن يبقى وحيدا اذا استمر العربي في بناء أعشاش ، ما أن يفرغ منها حتى يسطو عليها الغزاة،،.
الدستور