هل ابتلع البحر سفن الإغاثة والتضامن؟

وفقاً لدوائر الأرصاد السياسية (وليس الجوية) ، فإن مياه البحرين الأحمر والأبيض ، تبدو هادئة ولطيفة هذه الأيام ، موجُها خفيف إلى متوسط الارتفاع ، وحرارتها ضمن المعدل المعتاد في هذا الموسم من العام ، لا تعكر صفوها أبداً سفن التضامن التي وُعًد بها الغزيون بالعشرات منذ "ملحمة مرمرة" وما رافقها وأعقبها العدوان من ردات فعل دولية غاضبة لم تضع أوزارها بعد ، منددة بجريمة الهجوم على "أسطول الحرية" ومشيدة بالصمود الباسل لطاقم السفينة التركية ، ومثمنة الدعم غير المسبوق ، سياسيا وشعبيا ، رسميا وأهليا ، من تركيا لأبنائها الذين ركبوا البحر في أنبل مهمة سياسية وإنسانية على حد سواء.
بعد الملحمة إيّاها ، فوراً ومن دون إبطاء ، جاءنا المدد اللفظي من عواصم وأقطار شتى: لبنان الرسمي والشعبي والمقاوم ، قطع على نفسه عهدين: الأول بتسيير قافلة نسائية ، تضم متطوعات من طوائفه المختلفة ، في "طوف نوح" جديد ، تتكلله وترعاه السيدة العذراء ويحمل اسمها.. والثاني: بإعادة "حنظلة" إلى موطنه الأصلي على متن السفينة جوليا التي صار اسمها "ناجي العلي" ، على أن تحمل على متنها كتابا ومثقفين وصحفيين وإعلاميين.
وبعد سجال طوائفي حاد ، أدلت فيها الفنانة الموهوبة "فطرياً" هيفاء وهبي بدلوها ، وبعد أخذ ورد بين لبنان وإسرائيل ، وتهديدات وتهديدات مضادة ، لم يتحرك الأسطول من موانئه الرسمية وغير الرسمية ، بل أن مصادر لبنانية نفت أن تكون هناك سفن تحمل هذه الأسماء أو تستعد للقيام بهذه المهمة ، غرق أسطول التضامن اللبناني مع شعب غزة في مياه لبنان الطائفية ، وقبل أن يمخر عباب البحر الأبيض في رحلة التضامن مع فلسطينيي غزة المنكوبين ، عادت مأساة فلسطينيي لبنان للانفجار من جديد ، وباتت الحاجة ماسّة ، اليوم أكثر من أي وقت مضى ، لتسيير أساطيل التضامن وسفن الحرية صوب مخيماتها المنكوبة والمبتلاة بكل أنواع العنصرية والتمييز العنصري.
إيران الطامعة بدور إقليمي امبراطوري ، لم تستطع احتمال كل هذا الحضور التركي الكثيف والطافي في سماء الشرق الأوسط وفضائه وبحوره وبراريه ، فقررت من فورها ، تسيير أسطول من ثلاث سفن وطائرة (لا أدري لماذا الطائرة ، وما الذي يمكن حمله فيها وأين ستهبط ومن أين ستتزود بالوقود) ، بل أن الحماس الإيراني لمهمة إسناد الفلسطينيين بلغ حدا محرجا لحماس ذاتها ، خصوصا عندما طلع علينا الحرس الثوري ببيان وضع في نفسه رهن إشارة المرشد والقائد الأعلى ، الذي إن أمر بتحريك الحرس والأساطيل ، سيستأنف التاريخ جريانه من النقطة التي انتهى إليها في "ذات الصواري" زمن بسر بن أرطأة وعبدالله بن أبي السرح ومعاوية بن أي سفيان ، وثلاثتهم ليسوا على "قوائم المفضلة" لدى الحرس والمرشد كما هو معلوم.
لم يتحرك الحرس ولم نر سفناً ولا طائرات ، فقد تبين لنا مرة أخرى ، أننا أمام "تضامن إذاعات وأثير" مثلما كنا قبل سنوات وعقود أمام "حروب إذاعات وأثير" ، وأن فلسطين للمرة الألف ، تستخدم في حروب الأجندات المصطرعة ، وقتال الديكة المحتربة في هذا الإقليم.
آخر صيحات "التضامن البحري" مغ غزة وأهلها ، تلك التي صدرت عن ليبيا ومؤسسة القذافي العالمية وسيف الإسلام ، وتمثلت في السفينة "أمل" التي خرجت في رحلة كسر الحصار إلى موانئ غزة ، فإذا بها بقدرة قادر تحط في ميناء العريش ، وضمن سيناريو مسرحي معد سلفاً ، وتفترض واحدة من مقتضياته ، أن تظل السفينة أطول فترة ممكنة في طول البحر وعرضه ، من باب التشويق والإثارة واستدراج الاهتمام والأضواء ، وبهدف الإيحاء بأن شيئا "عميقاً" ، وربما أعمق من مياه البحر الأبيض المتوسط ذاتها ، يجري إعداده والتفاوض بشأنه ، مع القاهرة وتل أبيب ، مباشرة وغير مباشرة ، ودائما لصالح الفلسطينيين ، ولصالحهم وحدهم ، حتى وإن كانوا خارج الصورة وآخر من يعلم أو يُستشار ، بل أنه قيل لنا على لسان أعلى "مراجع" السفينة إيّاها ، بأن الصفقة التي رست بموجبها في العريش هي من النوع الذي لم يحلم به الفلسطينيون من قبل ، وليس لها مثيل لجهة رفع الظلم والحصار الجائرين المضروبين حول القطاع.
وبخلاف اسمها ، فقد انتهت السفينة "أمل" إلى إثارة المزيد من موجات اليأس والإحباط وانعدام الأمل بفرص تملك العرب لطاقة الصمود وإرادة المقاومة وحنكة التفاوض ، فقد بدت مسرحية "أمل" من النوع الرديء نصاً وحواراً وسيناريو وإضاءة وإخراج ، وبلا مؤثرات موسيقية وهندسية من أي نوع.
ظننا بعد "مرمرة" أننا سنردد مع الشعر الجاهلي التغلبي ، صاحب المعلّقة التي حملت اسمه ، عمرو بن كلثوم: "ملأنا البر حتى ضاق عنا.. وماء البحر نملؤه سفينا" ، فإذا ببرنا مغلق أمام قوافلنا و"أنصارنا" ، وإذا بالعرب يملأون بحارنا بيخوتهم المذهبة والفارهة ، وليس بسفن "ذات الصواري" ولا حتى بسفن الهلال والصليب الأحمر الدوليين؟،.
الدستور