دكتاتورية السيريلاك الناعمة

يرتكب خطأ فادحا كل من يعتقد أن الأطفال في سنواتهم الست الأولى، أبرياء وعفويون وقليلو الحيلة بالمطلق، لأن ذلك ينطوي على استهانة ضمنية بقوة إدراكهم ومنسوب ذكائهم.

ومع التسليم بأننا نحبهم في كل الظروف والأحوال، ونعتبرهم سببا أساسيا لبهجة القلب، ونتفق على أن البيت الذي يخلو من صخبهم وفوضاهم، ويفتقر إلى أنفاسهم وصدى ضحكاتهم، وحتى نوبات بكائهم، هو بيت موحش بالضرورة، غير أن من يراقبهم عن كثب، سيدرك مدى الدهاء والحنكة والقدرة الفطرية على التحكم والاستبداد الذي يمارسونه تحت ذريعة الظرافة بحق الأمهات تحديدا، باعتبارهن أبرز ضحايا دكتاتورية السيريلاك الناعمة المعطرة ببودرة جونسون.

كما أن لديهم وسائلهم الخاصة في التخطيط والتدبير والتحايل لغايات تحقيق أهدافهم النزقة المخالفة دائما للتعليمات والقوانين، كالاستيلاء على لعبة طفل آخر أو عدم التقيد بمواعيد النوم أو التهرب من المشاركة في إعادة ترتيب مكان اللعب، أو المبالغة في تناول أصناف الحلوى المصرح بها طبيا، إضافة إلى العبث وإتلاف محتويات البيت وتحطيم الأواني تحت تأثير حالات الغضب والنكد غير القابلة للتوقع والتي تنتابهم لأسباب غير مفهومة من وجهة نظر الأهل، وغيرها من السلوكيات غير المسؤولة التي يقترفونها على مدى اليوم متهربين من أي عقوبة تذكر مستغلين حقيقة أنهم تحت السن القانوني، محاطين بكل أسباب التعلق والحب، مدركين بالغريزة أن قلب الأم بلا مبدأ أصلا وبالتالي فإنها سرعان ما تنسى وتغفر وتعاود سيرتها الأولى من حيث الإفراط في الدلال.

ثمة خبيرة إنجليزية متخصصة في السلوك الاجتماعي للأطفال قامت منذ سنوات بإعداد وتقديم برنامج تلفزيوني حقق نجاحا كبيرا وشهرة واسعة، دعت أكثر من محطة تلفزيونية في العالم إلى تقليد فكرته المبتكرة.

وينتمي هذا البرنامج إلى مدرسة تلفزيون الواقع التي سادت في السنوات الأخيرة، وهو بعنوان "super nanny" فكرة البرنامج بسيطة وشيقة جدا، حيث تقوم المربية الخارقة ذات الشخصية الحازمة في كل حلقة بزيارات ميدانية إلى بيوت تضم صغارا نزقين صعبي المراس لغايات ترويضهم وتسهيل مهمة تقويمهم سلوكيا بشكل علمي مدروس يعلم الأهل كيفية التحكم بعواطفهم خلال العملية التربوية من دون إغفال حاجة الطفل إلى الحب والحنان والإحساس بالأمان.

وتقوم المربية الخارقة بكشف وسائل هؤلاء الصغار في ابتزاز ذويهم، عاطفيا، وغالبا ما تبدو المهمة بالنسبة للمتفرجين مستحيلة التحقق، سيما وأن الحالات التي تعرضها في كل حلقة هي نماذج بالغة التمرد والعناد لأطفال مستبدين في ظل والدين يبديان استسلاما وانهزاما إزاء بطش وطغيان أولئك الأحبة، غير أنها تنجح دائما في إعادة تأهيلهم وتوعية ذويهم بأفضل الوسائل للتعامل معهم. كما يضم الموقع الإلكتروني الرسمي للبرنامج الكثير من الأفكار والمقترحات المفيدة جدا في هذا السياق.

ومما لا يقبل الجدل أن عملية تربية الصغار والاعتناء بهم على الصعيد الصحي والنفسي والتربوي والمسلكي هي مهمة شاقة ومسؤولية جسيمة، سيما وان ملامح شخصية الإنسان تتشكل في سنوات عمره الأولى بحسب علم النفس وهي مرحلة دقيقة ومفرطة الحساسية تتطلب في الاهل توفر المعرفة والوعي والحزم من دون تقتير مهما بلغت درجة التوتر في ابداء مشاعر الحب؛ لأنها غذاء الروح الأهم في كل الأحوال.

( الغد )