بوابة "المصالحة التاريخية"

لماذا ما يزال العرب وحدهم دون بقية الأمم والمجتمعات خارج قطار الديمقراطية والحريات العامة، بينما دول كانت تخضع قبل أعوام إلى حكم الحديد والنار ومنطق جورج أورويل في "مزرعة الحيوان" تتجه إلى الديمقراطية؟
ولماذا يكون البديل، حين تتبدّى أمارات انهيار دول وحكومات مستبدة عربية، هو الفوضى أو نظم فاسدة أو أشد فتكا، كما الحال في العراق ولبنان والأراضي المحتلة والصومال؟!
ثمة متوالية من الأسئلة التي تتولّد من مناقشة أسباب تعثّر الإصلاح السياسي، وما يجرّه ذلك علينا من صراعات داخلية ودوامات من الفساد والطغيان والاستنزاف الذاتي وهدر للثروات والأوقات والطاقات، فنسير إلى الوراء، بينما العالم يتقدم إلى الأمام.
رغم أنّ الاستبداد السياسي يتحمّل الجزء الأكبر والمسؤولية العظمى عما آلت إليه أحوال العرب اليوم، من عجز وتخلف حضاري ومشكلات طاحنة، إلاّ أنّ الاستبداد نفسه مُنتج لبيئة ثقافية حاضنة له معززة لوجوده وأدواته، تمتد جذورها إلى أعماق الخبرة السياسية العربية.
أحد المفاتيح الرئيسة في الإجابة عن سؤال الاستبداد السياسي هو "المشكلة الثقافية"، سواء في الموروث الثقافي- الشعوري، الذي أصطحبناه مع فقه مرعوب من السلطة يقلق من المعارضة، ويؤثِّم "الخروج"، إلى أمثلة شعبية تكرّس ثقافة القطيع والسلبية والاستنكاف عن الإصلاح السياسي، إلى أمراض اجتماعية تجذرت خلال القرون الأخيرة تحت وطأة الاستبداد والتخلف الحضاري.
بيت القصيد أنّ "المسألة الثقافية" بمثابة شرط أساسي ومبحث رئيسي حين نناقش تعثّر الإصلاح السياسي لدينا، والسبب أنّ بدائلنا تكمن عادةً بين استبداد واستبداد آخر، وفساد وخيارات لا تتجذّر فيها قيمة الحرية والعدالة وحقوق الإنسان وتقديس قيمته في الحياة وحقه في تقرير مصيره وإدارة شؤونه، وهذه مفاهيم وقيم ومؤسسات وآليات لا بد لها من قاعدة ثقافية صلبة تسندها منظومة من التشريعات المتماسكة الصارمة، التي لا تقبل التهاون.
ثمة تحدّ جوهري لنخبنا وعلمائنا ومثقفينا، ليس فقط لنزع فتاوى الرعب من السلطة، بل لبناء فقه بديل عصري يؤكّد على مركزية الحرية والعدالة والديمقراطية والحريات، كقيم إسلامية- قرآنية جوهرية، وإحالة أغلب التراث الفقهي الموروث إلى شرطه التاريخي المؤقت ووظيفته حينذاك.
عندما يؤكد الفقه المالكي أنّ "من اشتدت وطأته وجبت طاعته"، وحين يحذّر ابن خلدون بأنّ "أحوال الدول راسخة لا تهزها دعوات المصلحين"، فإنّ هذه اجتهادات فقهية- تاريخية، وليست دينا أو نصّا منزلا، بل جميعها تنطبق عليها أحكام الضرورات التي تنتهي بزوال عللها.
المصالحة التاريخية بين العرب والسياسة تمر عبر البوابة الثقافية، من خلال جهود فكرية وثقافية واسعة لإعادة إنتاج منظومة من الأحكام الفقهية والقيم الثقافية- الاجتماعية تجعل من الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرياته خطّا أحمر.