الحقيقة دائما هناك

لم يكتب تاريخ العشرين او الخمسين سنة الاخيرة على الرمل او الماء ، او على مناديل ورقية من ذلك الطراز الذي يستخدم لمرة واحدة فقط ، فالارشيف تضاعفت وتطورت خزائنه وما فات لم يمت ولن يموت ايضا ، فهو موعود القيامة في كل لحظة مراجعة او صحو من هذه الغيبوبة القومية.
لهذا فان من اختطف فكرة او ثورة او وطنا لن يتلذذ بازدراده كما تفعل القطط في الخرائب.
وما كان مجرد اسئلة على استحياء وبصوت مهموس هي الان مساءلات تطرق الابواب ، وقد لا تنجو منها القبور ايضا.
ما جرى خلال عشرين او خمسين عاما هو كما يقول العلماء يعادل التطور البشري خلال عدة قرون ، لكن ما من عالم او فقيه قال لنا بعد كم تعادل هذه السنوات من تاريخنا قياسا الى الف وخمسمائة عام؟ فمن احرقوا مراحل في السطو وتحويل المسروق الى استحقاق يقابلهم من احرقوا المراحل في تبديد مصائر لاوطان وبشر وثقافات لان التاريخ باستمرار له وجهان ، فما من فقر معزول عن الثروة التي انتجته وتسببت بكل افرازاته الشاقة وما من هزيمة بلا انتصار يقابلها ، لهذا فان ما حدث خلال هذه السنوات لن تطوى ملفاته الى الابد ، بحيث يبقى البقر كله اسود في هذا الليل ، فالحابل معروف وكذلك النابل ، اما بابل فهي ثالثة الاثافي او ثالث الاقانيم في فقه الفوضى المدمرة واستراتيجيات الفرار تحت اسماء مضادة،
ومن استبد بهم اليأس من عرب هذا الوقت الرمادي ينسون ان هناك قراءات اخرى لما تم تسويقه اليهم ، ولن تكون قراءات أفقية أو مطبوخة على عجل ، وسوف يتضح للجميع بأن ما تم تلفيقه من غبار الحروب التي تنتسب الى ما بعد الحداثة ومن دخان الخرائب على امتداد خطوط الطول والعرض بدأ بالفعل يفقد صلاحيته.
ذرائع احتلال العراق واخراج العراق من العراق انتهت صلاحيتها ، ومن يتعاطاها سوف يسمم بسبب ما طرأ عليها من عطن وتعفن ، وذرائع غسل اليدين والقدمين من القضية الفلسطينية بسبب الانقسام أو القبول بما يقبل به الفلسطينيون أصبحت مظلات مهترئة ومليئة بالثقوب كالغربان لا تقي من مطر أو دم أو غبار.
ان حاجتنا كعرب الآن الى الفلسفة الخلدونية في ذورتها ، فهو يقدم لنا العون على مقاربة القرائن وفحص الروايات ، للتأكد من أن الغسق لم يكن مجرد شفق آخر ، أو ان البعير العربي تماوت قليلا كي ينجو من الذبح ولم يمت،
ذات تزوير كهذا صاح مؤرخ ألماني قائلا مزقوا التاريخ المدون ، فقد كان الامبراطور يملي علينا ما نكتب ، ونحن الآن أولى من ذلك المؤرخ بهذه الصرخة ، رغم ان من كان ولا يزال يملي التاريخ هو امبراطور ليس من صلبنا بل هو من أرضع وغذى ودرب وسلح أعداءنا وحاول تغطية عوراتهم بأوراق الفيتو بعد أن أسقط كل أوراق التوت،
من حق أي عربي لم يصب بالزهايمر المبكر ولم يفقد رشده القومي ان يشك في كل ما سمع وقرأ حتى الآن ، لأن المخفي أعظم ، ومن يأتينا بالاخبار تباعا هو ذلك الذي لم نزوده على الاطلاق بأي شيء باستثناء صمتنا،
ان ما نتصوره مجمل الحقيقة هو المبتدأ فقط في شبه جملة سياسية غير قابلة للفهم ، اما الخبر فهو قادم في الطريق رغم كل الكمائن التي تترصد حامليه ، ومن لا يعرفون حتى الآن الاسباب الحقيقية لسقوط الدولتين الاموية والعباسية عليهم ألا يسرعوا في الزعم بأنهم فهموا كل هذا التساقط الحديث .
( الدستور )