حتى أنتِ يا فيروز!

بقيت فيروز جامعةً عربية فنّية سياسية، لا نختلف أو نفترق عليها، تقف خارج حسابات الاصطفاف والتجيير، بالرغم من صدامات العرب وصراعاتهم وخلافاتهم الداخلية التي لا تنتهي، وبالرغم، كذلك، من بروز شبح الطائفية والهويات الفرعية وعودة العرب إلى روح القبلية والتناحر والاحتراب، حتى بين أبناء الوطن الواحد. حتى هذه الكوة الصغيرة في النفق المظلم ثمة من يسعى إلى إغلاقها، فلا نرى شمساً ولا نستنشق هواءً نقياً، بل مستنقعات آسنة وظُلمة لا ضوء فيها!
ماذا يحدث للعرب؟!..
فلم نعد نستحق صوت فيروز، يتردد في قلوب الجاليات العربية في الغُربة، فيذكّرهم بأشياء جميلة قليلة في بلاد العرب، ويُبقي رَمَقاً من الأمل لديهم بأنّهم إن فقدوا الأمن والأمان وفرص العمل والشعور بالكرامة والاحترام والعدالة في بلادهم، فسيكون صوت فيروز أنيسهم في غربتهم.
ماذا يحدث للعرب؟!..
فيفقد الغلابى والفقراء صوت فيروز، وهم يتوجهون إلى عملهم صباح كل يوم فتبثُّ في روحهم خيوطاً من الأمل في مواجهة يوم ثقيل. هل يُسعّرُ مثل هذا الصوت بالمال حتى يعتقلوه؟.. ألا تكفي معدّلات الفقر التي تزداد، ونسب الأُميّة المرتفعة، وتدهور التنمية وازدياد الضغوط السكانية والبطالة وجيوب الحرمان.
ماذا يحدث للعرب؟
فتصمت فيروز في زمن الانهيارات السياسية والانكسارات. الحكومات والشعوب العربية تراقب بغداد وهي تسقط بين ليلة وضحاها، تحت الاحتلال، وغزة التي تحاصر بأيدٍ عربية، والقدس تقع فريسةً للاستيطان والتهويد والتآكل يوماً بعد يوم، حتى التهديدات العربية الخشبية الخالية من أيّ معنى، التي كانت تنطلق تنذر إسرائيل بالويل والثبور لم نعد نسمعها، فكيف سيبقى صوت فيروز يصدح على مسمع المواطن العربي المحبط، وهي تعد بأنّ أجراس العودة ستقرع، وأنها ذاهبة لتصلّي!
ماذا يحدث للعرب؟!
حتى أنّهم لم يعودوا يحتملون سماع فيروز ورومانسيتها ومثاليتها والتزامها بالفن المحترم والرسالة النبيلة، فلم نجد من يدفعون الملايين، لترويج أجساد عارية وثقافة موغلة في محاكاة الكبت الجنسي، يتدافعون لإعادة صوت فيروز للشارع.
فيروز التي رفضت أن تغنّي خلال الحرب الأهلية اللبنانية، كيف تريدون لصوتها أن يتردد في أجواء الحروب الأهلية العربية والرايات البيض والفساد والتخلف والرجعية والقمع، إنه صوت لا يليق بهذه الأحوال! منع صوت فيروز لا يقف عند سؤال "المُلكية الفكرية" مع آل الرحباني، فهو عنوان من عناوين الفن والالتزام والنجومية الحقيقية. فيروز ليست ملكاً لأحد، هي ملك لنا جميعاً، نحن العرب، بل للإنسانية، هي إحدى القصص القليلة جداً في النجاح العربي اليوم، في مضاهاة فشل مدقع وقحط في أغلب مجالات الفن والمعرفة والثقافة، وقبل هذا وبعده، السياسة، ثم السياسة، ثم السياسة.