عن فيروزتنا

هناك من يصفها بأنها امرأة عادية جدا، بل أقرب إلى شخصية ربة البيت التقليدية، غير اجتماعية متعالية بعض الشيء محدودة الثقافة لا تتمتع بصفات إنسانية خارقة قد يتوهمها البعض.
ويذهبون إلى أنها انطوائية وخجولة لا تتقن فن التواصل، وليس لها أدنى خبرة في كيفية المجاملة، ولا تتمتع بأي من مهارات وحنكة النجوم المتمرسين المعرضين للأضواء الساطعة طوال حياتهم، المدربين على التصدي لأي لقاء إعلامي والتحدث بطلاقة ودبلوماسية عالية.
وأنها نأت منذ البدايات عن الظهور الإعلامي التقليدي الذي يلجأ إليه النجوم في كل مكان مهما بلغت مكانتهم، فأحاطت ذاتها بهذه الهالة من الغموض والتباعد، ليس زهدا كما يعتقد الجميع، بل حفاظا على صورتها المكرّسة كأيقونة إبداعية ثمينة غير قابلة للمسّ أو التفسير، وظلت مكتفية بمنصبها الذي استحقته عن جدارة كسفيرتنا المعتمدة إلى النجوم! ولم يشغل بالَها كثيرا نيلُ رضى الإعلام عنها، بدليل أن أرشيفها لا يتضمن سوى لقاءات نادرة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
حتى إن تواصلها الإنساني مع عشاق صوتها أثناء حفلاتها الحية يظل ضمن حده الأدنى، وتنجح دوما في الحفاظ على مسافة الهيبة التي اقترحتها على جمهورها منذ بدايات صعودها كنموذج لفنانة شديدة الاختلاف والتفرد لا يحدث كثيرا في الحياة، استكمالا لصورة المرأة الغامضة والرصينة ذات الكبرياء والأنفة، وهذا بالضبط ما ضاعف رصيدها من الإعجاب والتقدير على مدى سنين من التألق.
ويأخذ البعض عليها أن تذاكر حفلاتها التي أقيمت في أكثر من عاصمة عربية أصبحت باهظة الثمن، سيّما في السنوات الأخيرة ما حرم عشاقها البسطاء من تجربة حضور هذه الحفلات التي أصبحت بعيدة المنال وحكرا على فئة معينة قادرة على الدفع من دون أن (ينخرب بيتها).
ويتناقض هذا الحال مع فكرة صوت فيروزتنا الذي يعتبره الكثيرون الممثل الشرعي والوحيد عن وجدان أمّة بأكملها، ومع محاولة تحييد مشاعر عمر من التعلق بهذا الصوت الغالي على أرواحنا المنبثق من مدرسة الرحابنة للعبقرية الشاملة مكتملة العناصر التي تربينا كجيل على تعاليمها المحمّلة بكل القيم الجميلة المبشرة بالحب والحق والعدالة، ومقاومة كافة قوى الظلم والاستبداد والترفع عن المكتسبات الدنيوية الصغرى والاحتفال بالحياة البسيطة الوادعة وتأمل عبقرية الجمال الكامن في تفاصيلها الصغيرة، ومع محاولة تفهم البعد القانوني البارد والمحايد، ولكن المنطقي كذلك، للصراع الدائر في البيت الرحباني العريق المتعلق بحقوق الورثة المشروعة في الملكية الفكرية لهذا الإرث، التي تنص عليها القوانين والشرائع والأعراف. غير أن القلب غير المعني، بكل تلك الحيثيات ليحزن حقا على هذا المشهد الفانتازي البائس، لذلك الاعتصام المحدود الذي أقيم في بيروت ولم يحقق أي نجاح يذكر باستثناء تعميق الصدع في الخلافات بين أفراد الأسرة الرحبانية، المشكلة شأن عائلي، غير أنها تمس ملايين من أبناء هذا الوطن وينبغي أن تحل بشكل جذري وفوري، ومع التسليم والإقرار بحبنا غير المتناهي لصوت السيدة فيروز وحرصنا على استمرار وقوفها على الخشبة شامخة مثل سروة عتيقة إلا أنها تظل طرفا في المشكلة، وبالتالي هي طرف في الحل كذلك، من هنا نتمنى عليها لملمة أسباب هذا النزاع غير الأنيق الذي سوف يؤدي حكما إلى حبس صوتها الأسطوري في حنجرتها السبعينية المتأهبة للتحليق غناءً في سماء بيروت التي أحببناها بتحريض مباشر من أم زياد أدامها الله.
( الغد )