لماذا يزعجهم؟!

الحوار الالكتروني، الذي أجرته الزميلة "العرب اليوم" مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، على موقعها على شبكة الانترنت، أتاح للجمهور الأردني التعرّف أكثر على شخصية أردوغان وفكره السياسي ورؤيته لملفات معقدة ومتعددة.
يدّعي بعض المثقفين أنّ إعجاب المواطن العربي بأردوغان يكمن في "عُقدة المخلّص"، ولا أحسب أنّ عاقلا ممن يبدون إعجابا بأردوغان يتوقع منه أن يأتي ليحل مشكلاتنا ويخلصنا من أزماتنا، ويواجه إسرائيل نيابةً عنا، فهذه الدعوى فيها استخفاف بالناس ومشاعرهم وأفكارهم.
سرّ "وصفة أردوغان" لدى المواطن العربي هو، تحديدا، امتلاكه سمات القيادة والزعامة الحقيقية التي يفتقدها المواطن العربي في الحكومات العربية الحالية، وأول شروط هذه الوصفة أنه أتى إلى مقعد القيادة باختيار شعبي حقيقي حرّ، وببرنامج سياسي واقتصادي واضح.
يمتلك أردوغان، كذلك، ميزة أخرى مفقودة لدينا، وهي فك شيفرة الاشتباك بين الدين واستحقاقات العصر، والخروج من دائرة الصدام الذاتي بين العلمانية والإسلام، الحركات الإسلامية والمشاريع الوطنية الأخرى، فهو مسلم ملتزم متدين، منفتح، يعتز بحضارته، يصرّح أنه وريث العثمانيين، لكنه يدرك شروط العصر ومفاتيحه، فيتجنب النماذج "الإسلاموية" في الحكم، التي أودت بالناس إلى الإحساس العميق بالتصادم بين "أن يكونوا مسلمين" وبين أجواء الحريات العامة والشخصية.
أردوغان يقدّم نموذجا إسلاميا مختلفا عن نموذج طالبان وحركة المجاهدين في الصومال وبعض الممارسات والخطابات في غزة، وأسلوب الحكم في إيران، وهي نماذج ترفعها الحكومات العربية كـ"فزّاعات" من الإسلام السياسي.
النموذج الإسلامي التركي، بقيادة غول وأردوغان، يقدّم حيثيات مختلفة تماما عن الدعوى الرسمية العربية، وفي حال تعميمه وانتشاره عربيا، فهو مقلق جدا لحكومات أتقنت التخويف من أي بديل وطرح إسلامي باعتباره نموذجا للعداء والانغلاق والصدام مع الغرب.
على الصعيد السياسي، يقدّم أردوغان نموذجا مغايرا للزعامات العربية التاريخية التي أشبعت العرب كلاما معسولا، وملأت الفضاء بالوعيد لإسرائيل، وفي نهاية اليوم تبيّن للجميع أنها مجرد دعايات وأصوات بلا مضمون.
أمّا أردوغان فيمثل وصفة مختلفة عنوانها "الواقعية النضالية"، ويحرج الحكومات العربية التي تغلق الأبواب على نفسها، وتقول "لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده!"، فهو يفتح أمامهم كوّة واسعة في الجدار، ويقول؛ هنالك فرصة لإعادة بناء التوازنات الإقليمية، واستعادة المبادرة، وتوسيع هامش المناورة السياسية، والعمل على الاستقلال بالقرار السياسي والسيادي، حتى مع وجود علاقات جيّدة مع الغرب.
بعد ذلك، هل من المستغرب أن تشعر الحكومات العربية بالانزعاج وتبدي تأففا من الصعود التركي في المنطقة، وتحاول هي (لا غيرها) إغلاق الباب عليه، بالرغم أنه يمثل رصيدا (مفترضا!) لها إن أرادت، لكنّها لا تريد!
( الغد )