الإقامة في الترانزيت

كنا عائدين من الرباط بعد ندوة عن نجيب محفوظ بمناسبة فوزه بجائزة نوبل، الصديق الراحل جبرا ابراهيم جبرا وأنا، ولسبب ما مكثنا خمس ساعات في ترانزيت مطار اورلي، والتقينا بالمصادفة الدكتور محمد عابد الجابري الذي كان عائدا الى الدار البيضاء، وكان حوار طريف ذلك الذي دار في الترانزيت حول الثقافة العربية ونقد العقل العربي ونقد النقد ايضا، وقد فوجىء المفكر الراحل الجابري بسؤال كان يطفو على سطح ذاكرتي، هو كيف يمكن لابن سينا ان يكون افضل من نفسه او بمعنى آخر افضل من ابن سينا ؟ وابتسم الجابري رغم صعوبة اتضاح الابتسامة على وجهه الوقور وعينيه المترعتين بالشجن، ثم ذكّرته بما كتبه عن ابن سينا واخوان الصفا، لأنه قال ما معناه ان ابن سينا كان سيكون على غير ما كان عليه، وللمفارقة فقد كانت معالجة الجابري هذه قدر تعلقها بابن سينا واخوان الصفا تحت عنوان الاسقاط، او التفكير الرغائبي، وبحصافة عقل رياضي تحدّث الجابري عن الممكن مقابل المتحقق في اي مشروع فكري، وهنا تدخّل جبرا ليقول ان هذه الثنائية بين الممكن والمتحقق ارّقته، وضرب مثالا الشهيد غسان كنفاني الذي لو لم يكن مشحونا حتى النخاع بالهمّ الفلسطيني لكتب نصوصا اخرى، ولم يستثن جبرا نفسه ايضا من هذه الثنائية، لقد كان حوارا طويلا تخللته طرائف، لكنه انتهى الى اتفاقنا على ان الثقافة العربية منذ عقود تعيش في الترانزيت، تماما كما هو حوارنا في مطار اورلي، فهي ليست هنا وليست هناك، انها في المساحة الحرجة سواء نسب هذا المصطلح الى الفيزياء او التاريخ، ومنذ تلك الظهيرة بدأت افكر جديا بما يعنيه الترانزيت مجازيا ومدى قابلياته للتأويل ليشمل ما هو أبعد من المسافرين الاشخاص. وثقافتنا منذ أشرعت الابواب والآفاق لما يهب من رياح التحديث في العالم عبر الترجمة ومختلف اشكال الاتصال والتواصل بدأت تتلقح بأسئلة كانت شبه محرمة لقرون كما ان الهواجس الوجودية والشك المنهجي لم تكن في صميم هذه الثقافة، باستثناء ما بدأه ابن خلدون عندما اجترح افقا جديدا في مقاربة روايات التاريخ والترجيح من خلال القرائن، ثم جاءت محاولة طه حسين في كتابه عن الشعر الجاهلي لتثير ما أثارت من الاستنكار لكن هذه الثقافة النازعة الى اليقين لا تزال تشهد كتابات تبدأ منذ السطر الاول بعبارات من طراز مما لا يختلف حوله اثنان، او مما لا شك فيه، لأن كفّة اليقين كانت ولا تزال أرجح بأضعاف من الكفة الاخرى حيث الاسئلة والشكوك وشهوة الكشف، وقد كانت موجات الحداثة التي تعاقبت على تخوم العالم العربي قد قوبلت بالصدّ وأقرب مثال على ذلك المناخ الارهابي الذي نشأ فيه شعرنا الحديث، عندما وصف الشعراء الرواد بالعقوق للتراث، والخروج عن شرعية الشعر كما عرفه ديوان العرب في تاريخه الطويل . في الترانزيت يجلس المسافر بين مكانين وكأنه محتجز في المسافة، وعلاقته الوحيدة بالمكان الذي ينتظر فيه موعد اقلاع الطائرة هي التماس ولو شئنا استخدام مصطلح اصبح متداولا في الأعوام الاخيرة فهو عالق بالمكان، لكن الثقافة عالقة بالزمان ايضا خصوصا عندما تكون محاصرة بحراس لا يفرقون بين الزائر واللص، وبين نافذة مفتوحة ومشرعة على الريح وأخرى مرسومة على الجدار. ومنذ بواكير الحداثة بكل ما تعرضت له من نكوصٍ وتواصل تبدو ثقافتنا الان كما لو ان نصفها في الماضي ونصفها الاخر في المستقبل اما الراهن فهو مجرد ترانزيت، لكن المكوث فيه قد يطول عقودا وليس بضع ساعات كما يحدث عادة للمسافرين .
ولا أدري كيف فات معظمنا ان الحداثة سياقات ورؤى، وليست مساحيق تجميل او طلاء يخفي القصدير والصدأ تحت الرخام، لهذا نتعجب احيانا كيف عاشت الحداثة أدبيا في مناخات الباترياركية السياسية، فالاتباعيون الذين حولوا الماضي الى وثن اصمّ أقاموا في المتحف، رغم انهم محرومون من استخدام ادواته التي لم تعد صالحة للاستعمال كجرار الفخار والأطباق، تماما كما ان من أقاموا في الترانزيت حرموا من المدينة التي يعيشون في ضاحيتها او في المطار ومن المدينة التي يودون الوصول اليها، هكذا تحول المتحف الى قدر لمن ظنوا ان الماضي قادم من المستقبل، مثلما تحول الترانزيت الى قدر هؤلاء الذين لم يعودوا هنا ولم يعودوا هناك، ولأن الترانزيت أضيق من ان يكون مساحة صالحة للحياة فإن من يمكثون فيه طويلا يحولونه الى ما يشبه الحلقة المفرغة، وهي مسرحية لسارتر عن اناس يعيشون في مكان محاصر وخانق ويضطرون بمرور الوقت إلى افتضاح كل اسرارهم بحيث يتحولون الى خصوم لا يطيق احدهما الآخر ! ان ثقافة الترانزيت هي المنبت الذي لا حداثة قطع ولا كلاسيكية أبقى، وهي اشبه بما سماه دانتي في كوميدياه الالهية منطقة الليمبو، لكن الفارق هو ان الاتباعية والحداثوية هما ما تفصل بينهما منطقة الليمبو هذه وليست الجنة والجحيم !
** * * * * * *
على الرغم من الالحاح الدراماتيكي الذي مارسه المبشرون بالحداثة حول الذائقة والحساسية، الا ان التناغم كان غائبا بين الاعداد الذهني وما يوازيه من اعداد جمالي، وقد ساهم النقد الترانزيتي ايضا في تكريس هذا الافتراق، لأنه لم يعبّد طرقا وعرة بقدر ما سلك طرقا مطروقة وممهورة بالحوافر، ولا نزال حتى الان بعد مرور اكثر من ستة عقود على الريادة الشعرية للحداثة نقدا مرصعا بالمصطلحات، ومتأنقا نظريا لكنه ما ان يترجل الى النصوص لفحصها حتى يتعثر، وتغلب عليه عاداته القديمة بحيث يسقط في المفاضلة البلاغية، ويبقى افقيا شارحا وأحيانا متغذيا على النصوص التي ينقدها، فالقراءة هي الغالبة على الاستقراء، لهذا يبقى الكثير من الممكنات القابلة للتأويل هاجعا في باطن النصّ .
ان شبه الحداثة هو النقيض الفعلي للحداثة وليس الكلاسيكية، تماما كما ان النّظم هو نقيض الشعر لا النثر، لأن الصورة تذكرنا بغياب الأصل بل تستدعيه على الفور ليدافع عن نفسه أمام محاولات التقمص والمحاكاة . واذا كان بعض الشعراء التلقيديين توهموا في حمىّ التبشير بالحداثة ان القصيدة الحديثة هي بعثرة للعمود واعادة توزيعه على السّطور، فإن بالمقابل هناك شعراء وبمعنى أدق اشباه شعراء توهموا ان مضادات الكلاسيكية هي الحداثة بمعزل عن الرؤى والنّسق والسيّاق، وهم يذكروننا ببطل موليير الكوميدي الذي اكتشف بأنه ناثر لأنه لا يتكلم شعرا .
لقد كان ذلك الحوار في ترانزيت مطار اورلي نموذجا مصغرا او عيّنة من ثقافة الترانزيت ليس فقط لأنه حدث في الترانزيت بالفعل بل لأن الموضوعات والهواجس التي كانت توجه سهم البوصلة فيه ترانزيتية بامتياز .
القدس العربي