فيروز .. «كيفك إنتي» ؟!

كان لتلك المرحلة عنوانان: فيروز وأم كلثوم. الأولى صباح يمتد الى آخر الليل ويبقى طازجا. الثانية ليل لا ينام ونهار يرتاح على ذراع أغنية.
كلاهما ، وحدهما ، تصلحان لكل الأوقات والأعمار والحالات.. والأزمات أيضا.
في بداياتنا كنا فيروزيين بالفطرة السمعية. وكأن الشمس كانت تصحو على صوت فيروز. أو أن صوتها أشعة شمس صباحاتنا ، تصل آذاننا قبل أن ترى عيوننا ذهب عيونها.
ولأن فيروز كانت للكل ، ولم تكن الأغاني محرمة شرعا ، فقد كانت أمهاتنا يفتحن الراديو حول السادسة صباحا. يتعمدن أن يكون الصوت أعلى من المعتاد ليصل إلينا نحن النائمين ثلاثا ورباعا وربما خمسا وستا على فرشات القطن اليدوي أو الاسفنج ، كمنتج جديد ، في غرفة واحدة تتسع وتضيق حسب عدد الأبناء ، وحسب دخل رب العائلة الذي لم يكن لديه وقت للتوقف عند "جسر اللوزية" أو "جبل صنين". ولم يكن قد تبقى في مزاجه الذي امتلأ بـ "يا مسهرني" و"الاطلال" و"أنت عمري" ، وكذلك بـ "الكرنك" و"كيلوباترا" و"هان الود" لعبدالوهاب ، ان يتوقف عند فيروزيات "كتبنا وما كتبنا" و"لا أنت حبيبي ولاربينا سوا" و"ما في حدا لا تندهي" و"نسم علينا الهوا" و"كيفك انت".
كانت الأم "تفتح" الراديو على برامج الصباح التي كانت تبث أغنيات معظمها لفيروز وتذهب الى المطبخ ، أو شبه المطبخ ، لتعد الشاي...، ولا داعي لذكر ماذا غير الشاي إذ غالبا لم يكن ثمة غيره ،
كنا نصحو من هدأة نوم بأعماق الروح. إذ كيف لا يصحو من يوقظه صوت ملائكي يذكره "فايق يا هوا لما ربينا سوا" ويحلق به "طيري يا طيارة طيري" و"بكتب اسمك يا حبيبي". و"مر بي يا واعدا وعدا".
بعافية صباحية مشمسة. نخرج من البيوت مشيا الى مدرسة شبيب في أقصى غرب الزرقاء من جناعة أقصى جنوبها. نحمل الكتب من دون شنطة لنشعر أننا كبرنا على المرحلة الاعدادية وشنطتها الاجبارية. نطيل الشعر قليلا بعدما كان أقل من قليل في المرحلة السابقة.
كنا نحس أن صوت فيروز هو الطريق والرفيق. تبحث عيوننا بين أسراب فراشات الثانوية الخضراء عن القمر الذي كانت تقول فيروز أننا وهو جيران ونرقب "مشي الزعرورة" ومن يجرؤ يقول بهمس "وقف يا اسمر". ربما لذلك سمونا رومنسيين أو حالمين أو.. واهمين، نفرح لدوالي العريشة حين يتمدد ، نحب حتى ننسى النوم ، نضجر عندما يطول الزعل ثم نردد "رح نبقى سوا" ، ونمضي في "طريق النحل" ، لنجد عالمفرق قهوة وعودا رنانا..
فيروز كانت كلنا ، والرحابنة كانوا كل الكل. ليسوا ماء عذبا ولحنا انسانيا فقط ، لم يكونوا يكتبون للحب والقمر والبحر والشبابيك ، كانوا يكتبون وفيروز تغني لزهرة المدائن ولعمان والشام وبغداد والاسكندرية ومكة ، للغضب الساطع والكرامة و"خبطة قدمكم على الارض هدارة".
ترى ، ما الذي تغير حتى تغيرنا الى هذا الحد من الجفاء معنا ؟ لماذا يريدون اغتيال الحلم الحي ، يكسرون ايقونته علما بأن البحر والهواء والأرض وطير الوروار وشقيق الروح ما زالوا كما هم ؟ كما غنتهم فيروز.. وهل يستطيعون كسر صداها الباقي فينا؟،
الدستور