"مكاشفات المعشّر".. من ينصت

وجبة دسمة مثقلة بالتحليل العميق للحظة الراهنة استلّتها الزميلة رنا الصباغ بمقالها أمس (في الزميلة "العرب اليوم") من "مكاشفات" أجرتها مع د.مروان المعشّر، الخبير السياسي، الذي قاد عبر مشروع "الأجندة الوطنية"، أكبر مجهود وطني توافقي على بناء "خريطة طريق" لمستقبل الأردن، لترسيم المسار المدروس للسياسات العامة، وصولاً إلى الخروج من الصيغة الارتجالية قصيرة النفس، ومن تخبّط الحكومات في سياسات متضاربة ينقض بعضها بعضاً.
باختصارٍ ذكي يُلخّص المعشّر سرّ "إعدام الأجندة الوطنية" بوجود "قوى متنفّذة" تضخّم من كلفة كل محاولات الإصلاح الجدّي، وتُشكّك في من يدعو إلى الإصلاح البنيوي الحقيقي، أما الفزّاعة فهي "القفز في المجهول"، لكن هذه القوى لا تنظر إلى حجم الخطر الأكبر، الذي تقود إليه "محاولات التجميل"، على حد تعبير المعشر، التي تستبدل بها دوائر القرار الإصلاح الحقيقي.
الثيمة الرئيسة في "مكاشفات" المعشّر أنّ توصية الأجندة الوطنية كانت بالفعل تُمهّد الطريق لإصلاح آمن تدريجي، من خلال قانون انتخاب يزيد في كلّ دورة نسبة القائمة الوطنية، حتى نصل في نهاية المطاف إلى قانون انتخاب يقوم على "القائمة الوطنية".
مع ذلك، تم الهجوم على الأجندة، وفقاً للمعشّر، بسبب هذا الاقتراح، بالرغم أنّه كان يكفل تجديد هيكل النظام السياسي ومضمونه، بلا كلفة المخاطرة الأمنية، وكان سيكفل ولادة تعددية سياسية حقيقية ونموّها من خلال الممارسة العملية، بدلاً من التباكي المستمر على انفراد الإسلاميين بالشارع!
النتيجة الرئيسة لعدم المضي في الإصلاح والبحث عن الحلول السهلة هي "الدوران حول الذات" وترحيل الأزمات ومراكمتها، حتى تصبح عبئاً ثقيلاً، والخروج منها يتطلب كلفة أكبر.
اقتصادياً، سارت السياسات الاقتصادية في طريق معاكسة تماماً لفلسفة الأجندة، التي اقترحت توصيات توازن بين الاعتبارات الاقتصادية في مواجهة العجز والمديونية والحد من الاعتماد على المساعدات الخارجية وبين الاعتبارات الاجتماعية والسياسية، التي تكفل تمتين البنية التحتية والخدمات العامة التي تخدم الفقراء والمحرومين.
"الجُملة الذهبية" التي تنقلها الصبّاغ عن المعشّر أنّ "قوى الوضع القائم المستفيدة من الامتيازات والمكاسب من الدولة لا تريد التغيير، بدها البلد تظل تمشي مثل ما كان عليه الأمر قبل أربعين سنة. بس الدنيا تغيّرت..".
دولة مواطنة وقانون ومؤسسات واحترام لحقوق الإنسان والحريات العامة، وفك الاشتباك بين المنظور الأمني والسياسي، واعتماد معيار الكفاءة والعدالة في توزيع الفرص والتنمية المتوازنة،.. بمثابة مساحة من الغايات التي تحظى بإجماع وطني، بينما تكفّلت الأجندة برسم الطريق إلى تحقيق ذلك، قبل أن يتولىّ تياران (وليس تياراً واحداً بالمناسبة!) مهمة تشويه الأجندة والتخويف منها!
الأجندة كانت مبادرة مدروسة متقدّمة للنظر إلى المستقبل والدخول إليه بأقدام ثابتة وبروية واضحة، وأحسب أنّنا لو التزمنا بتصورها العام (ليس بالضرورة الجزئيات) لم نكن بحاجة إلى استعادة نقاشات بيزنطية مع كل مطب سياسي وكأننا نريد "اختراع العجلة من جديد".
المعشّر يرفع صوته من "خندق الإصلاح" الحقيقي، الذي يخدم النظام والمجتمع، ويقدّم مكاشفات تستحق الإنصات والاهتمام. فهل يتم التوقف عندها أم تمر مرور الكرام!
( الغد )