محاولة أخرى للحديث حول مقاطعة الإخوان

من قرأ وسمع ما تردد خلال الأيام الماضية حول مقاطعة الإخوان للانتخابات ، سيعتقد أن الجماعة برموزها وقادتها يجهلون أبجديات السياسة ، وأنهم غير مؤهلين البتة لاتخاذ قرار لا يتعلق بإعلان الحرب على الولايات المتحدة ، وإنما بمقاطعة انتخابات برلمانية سبق أن قاطعوها ولم تنطبق السماء على الأرض ، لأن المشاركة والمقاطعة لا تخرجان عن إطار قرار سياسي قد يكون صحيحا في مرحلة وغير ذلك في مرحلة أخرى ، ودائما بلغة جلب المصالح ودرء المفاسد كما ذهب فقهاؤنا في القديم والحديث.
الإخوان ليسوا ملائكة ، بل بشر يقترفون الكثير من الأخطاء ، لكنهم في أي حال يجتهدون لما يرون فيه خير الوطن والأمة ، وبالضرورة مصلحتهم كجماعة تعمل في خدمة الوطن والأمة ، وهم لذلك يستحقون النصح من أي أحد ، لا سيما من كان له سجل حقيقي في التعامل الإيجابي معهم ، أما النصح "المدرسي" ، ومن طرف أناس ليس لهم مثل ذلك السجل فلن يجد من الجماعة آذانا صاغية.
أيا يكن الأمر ، فقد اتخذ القوم قرار المقاطعة وهم يدركون تبعاته ، لكنهم قاطعوا مستندين إلى جملة من المعطيات ، وليس الى معطى واحد هو قانون الانتخاب كما تردد ، ولو لم يكن لديهم غير توجهات قواعدهم التي ستحمل عبء المشاركة ، وكذلك جماهيرهم العازفة عنها بحسب المؤشرات المتوفرة لديهم ، وبالطبع لاعتبارات الشعور بعدم الجدوى بعد تجارب عديدة ، لو لم يكن لديهم غير ذلك لكفاهم لاتخاذ القرار الذي اتخذوه.
الأسوأ هو حشر المقاطعة في عنوان المشاكل الداخلية ، وهي نظرية لا تختلف عن حشرها في قضية قانون الانتخاب والرد بأنهم شاركوا بناءً عليه غير مرة ، فالمشاكل حضرت من دون شك في وعي من اتخذوا القرار لكنها كانت جزءً من التقييم ، وهو أمر طبيعي ، إذ الأصل أن تخوض الجماعة معاركها وهي أكثر تماسكا وتفاهما على العناوين العريضة للتحرك.
خلاصة القول هي أن الجماعة لم تجد لها ولا لبرنامجها في خدمة الوطن والمواطن ما يدفع إلى المشاركة ، وهو قرار ذاتي لا صلة له بأحد ، ولا نذيع سرا إذا قلنا إن بعض قادة الإخوان المؤيدين للمشاركة قد نقلوا عن رئيس المكتب السياسي لحماس قوله في معرض دردشة عابرة إن المشاركة أفضل من المقاطعة ، فكان أن مرت الحكاية دون ضجيج ، ولو قال الرجل عكس ذلك لقيل إنها الأجندة الخارجية التي تحكم الجماعة.
الجماعة تتعرض لعملية تحجيم تدريجي منذ نهاية الثمانينات سجلت نجاحات لا بأس بها ، ووصل الحال حد إحداث شرخ داخلي في صفوفها ، وهي تبعا لذلك في حاجة إلى إعادة ترتيب صفوفها وأوراقها من جديد ، الأمر الذي لن يتم إلا بتوافق على برنامج قابل للحشد في المدن والقرى والأرياف والمخيمات ، وحين يحدث ذلك سيكون بالإمكان المشاركة في الانتخابات المقبلة ، ربما على قاعدة تتعامل مع القانون المتوفر بطريقة أكثر مختلفة. قاعدة عنوانها المشاركة في جميع الدوائر دون استثناء كما ذكرنا غير مرة ، وهي الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها طرح الرموز وحشد الناس ، والأهم قياس وضع الجماعة وحجمها في الحد الأدنى ، حتى لو لم تحصل على أي مقعد في البرلمان ، أو اكتفت ببضعة مقاعد في أحسن تقدير.
الأصل قبل ذلك هو الدفع بكل الوسائل الديمقراطية والسلمية المتاحة ، وبالتعاون مع سائر القوى الحية في البلد من أجل سنّ قانون انتخاب جديد.
بقي القول إن الغياب عن قبة البرلمان لا يعني بالضرورة الغياب عن الساحة السياسية ، وقد ذكرنا من قبل أن حركة العدل والإحسان هي الأقوى في المغرب رغم مقاطعتها الدائمة ، وفي الأراضي المحتلة عام 48 تتصدر الحركة الإسلامية بقيادة الشيخ رائد صلاح المشهد السياسي رغم غيابها عن الكنيست ، وإن يكن قياسا مع الفارق. مع العلم أن قيمة البرلمان غالبا ما تتحدد بناءً على دوره في التعبير عن هموم الناس وقضاياهم.
( الدستور )