صوفي الجميلة

بد أن الآنسة الجميلة صوفي جورج الفار، التي بلغت من عمرها المديد ثلاثة أشهر بالتمام والكمال، فتاة محظوظة بكل المقاييس، ومن المؤكد أنها ستنال على مدى سنوات حياتها الآتية (طفلة وشابة وسيدة مكتملة النضج) الكثير من الاعتناء والانتباه والحب الوفير.
وسوف تنمو وتكبر في فضاء أسري نموذجي على المستويين الإنساني والمعرفي، وسوف تتقن مهارات حياتية ومسلكية عالية المستوى؛ لأن عائلتها بيتت النية على تقديم أفضل ما لديها في سبيل تنشئة محبوبتهم الصغيرة، وليس بمستبعد أن تتميز عن أقرانها بحس فني مرهف وذائقة أدبية رفيعة، وقد تكبر لتصبح عازفة بيانو شهيرة أو راقصة باليه بالغة الرشاقة أو صحافية متمرسة ذات شهرة واسعة.
وقد تحتل مقعدا ليست له علاقة بالكوتا في مجلس النواب، وربما ستغدو معلمة ذات شخصية قيادية مؤثرة حالمة تطمح إلى التغيير والتمرد على بلادة السائد والمألوف، من يدري فالاحتمالات كلها مفتوحة أمام الصغيرة صاحبة الاسم الإغريقي الجميل صوفي الذي يعني الحكمة، تلك المرتبة المعرفية الكبرى التي يفتقد إليها زماننا المعتم هذا، مع أن الحكمة كما ورد في الكتاب المقدس (ساطعة لا تذبل تسهل مشاهدتها على الذين يحبونها ويهتدي اليها الذين يلتمسونها)، وكما جاء في سورة البقرة في القرآن الكريم (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا).
أطلت صوفي على دنيانا في غمرة احتفالية استثنائية غير مسبوقة من حيث مقدار الحب واللهفة والاشتياق الطويل، وكان والدها الدكتور جورج الفار قد احتضنها بين دفتي كتاب من نوع خاص جدا أعد من أجل عينيها فقط، اشتغل عليه بكل الحب الممكن، والفار شخصية إشكالية معروفة جدا في الأوساط الثقافية، وهو أستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية، الخمسيني الذي تورط في مشاعر الأبوة سلفا، وانخرط منذ لحظة تهنئة الطبيب له بالجنين الموعود في تمرين حي ومباشر على أبوته المتأخرة نسبيا من خلال كتابة خمسين رسالة موجهة إلى ابنته المنتظرة مؤكدا بهاء الانثى، عنوانا لكتاب صدر حديثا بدعم من وزارة الثقافة وبتقديم ذكي من الروائية سميحة خريس، وقد احتوت مقدمتها قراءة عميقة لمحتوى هذا المنجز القيم الذي ينتمي إلى نوع أدبي شديد الندرة مندثر تقريبا، وهو أدب الرسائل.
وبطبيعة الحال، فإنني أتفق مع كل ما ذهبت إليه سميحة في قراءتها للرسائل الأبوية الدافئة، وأعترف أنني أجهزت على الكتاب خلال ساعتين متواصلتين من دون انقطاع ومن دون أي إحساس بمرور الوقت الذي مضى سريعا بعد تنقلي الممتع والمفيد جدا في عوالم الدكتور جورج، وهو يكثف خلاصة معرفته ومواقفه من الأشياء في لغة بسيطة مؤثرة لا تخلو من عمق.
بهاء الأنثى رحلة شيقة تذكرك بعوالم جبران خليل جبران في كتابه التأملي العظيم (النبي)، وتتيح لك فسحة من التأمل الفلسفي في الوجود والأشياء والأرواح والعلاقات والأمكنة، احتفال عفوي بالحياة ومحاولة لتبسيطها والتغلب على أحزانها والتصدي لتحديات غدها، انحياز كبير لقيم الأمل والعطاء وتحريض مدروس على التفكير الايجابي وعلى التمكن من فن العيش، والأهم من كل ذلك الانتصار الشجاع للأنوثة والإقرار بمكانتها.
رسائل خطها جورج لصغيرته صوفي، ورغم خصوصية وحميمية تجربة الأبوة بالنسبة له كمحرك أساسي باتجاه إنجاز هذه الرسائل، فإنها تنطوي على درس بليغ نستخلصه كقراء عن كيفية التواصل الضروري بين الأجيال بعيدا عن شبهة الوصاية ووهم التفوق المعرفي. تحية إلى جورج الفار وأمنيات من القلب لصوفي وأبناء جيلها بحياة أكثر انفتاحا على احتمالات الفرح!
( الغد )