مجتمعات ما قبل سن الرّشد

النفسية التي تصيب الأفراد قد تصيب مجتمعات أيضا ، فالوباء يبدأ باصابة واحدة ثم تتعهد العدوى بتكرارها لتشمل الجميع ، ومن تلك الأمراض النفسية الازدواجية أو الشيزوفيرينيا ، بحيث تنفصم شخصية الفرد ويصبح اثنين ما أن يطل أحدهما برأسه حتى يهجع الآخر ، فلا تدري من هو الذي أمامك ، وعندما يصاب مجتمع برمته بهذه الشيزوفرينيا فإن الكارثة تصبح وشيكة ، بل محتمة ، لأن الناس ينشطرون بسيف حاد الى ضعف عددهم ، بحيث يصبح كل واحد اثنين وأحيانا تستمر متوالية الانشطار بحيث يصبح الواحد أربعة.
خطورة هذه الازدواجية أن ما يقال في الليل يمحوه النّهار ، وقد يكون العكس صحيحا أيضا ، فلا يدري المرء ما اذا كان ما يسمعه صادرا عن القلب أو مجرد رشح من الشفتين ، لهذا يسود في هذه المناخات سوء تفاهم بلا حدود وتصبح اللغة وسيلة لتعميق سوء التفاهم تماما كما وصفها الكاتب يوجين يونسكو عندما سماها ساخرا في مسرحية عبثية المغنية الصلعاء، لكن ما الذي يدفع الانسان الفرد وبالتالي المجتمع كله الى هذه الازدواجية؟ انه وبلا تردد أو مراوغة الخوف وثقافة الحذر التي غالبا ما تفضي الى تعثر ، فالمذعور أشد رعونة من صاحب الحاجة ، لأنه أحيانا يقع فريسة الخطر الذي يأتيه مما كان يظن أنه مأمنه ، وحالة العمى التي تستبد بالمذعورين تفقدهم الرشد وتعطب بوصلاتهم فلا يدرون أين هم متجهون شمالا أم جنوبا وغربا أم شرقا ، ازدواجية الفرد قد تحميه لبعض الوقت فيحقق النجاة الى حين ، لأنه على موعد محتم مع ضبطه متلبسا بتناقضاته ، لأن يقول في الصباح عكس ما يقول في المساء ويسعى الى الاسترضاء لكنه غالبا ما يضلّ الطريق بسبب التوتر والذّعر،.
وتشبيه المجتمعات بالافراد وكذلك اللغات ليس امرا طارئا ، فقد عقد مثل هذه المقاربات فلاسفة وحكماء منذ اقدم الازمنة ، وعلى سبيل المثال فان جورج سانتيانا كتب قبل زمن يقول بان المجتمعات التي لا تقرأ ماضيها بعناية وبعين ثالثة كي ترى ما بين السطور محكوم عيها بان تعيد اخطاءها لكن بصورة اكثر فظاعة بحيث تتحول الى خطايا ، وهذا ما يحدث للافراد ايضا ، وكما ان للفرد حدا يبلغ معه سن الرشد فان للمجتمعات ايضا مثل هذا وان كان رشدها من طراز اخر ، لانه تاريخي بامتياز وليس فقط عضويا ، ووعي المجتمع بالشروط التي تحاصره واشواقه الى الاستقلال والحرية ، والمشاركة في صياغة المصير هو سن رشده وبلوغه التاريخي ، وبخلاف ذلك فانه يبقى محروما من النمو ، تتحكم فيه ثقافة الوصاية والابوية الشاملة ، وتصاب ارادته بالشلل بعد ان يدمن الفرار من قدره ، ما دام هناك من ينوبون عنه في التفكير والحلم لكنه ينوب عنهم بالموت،،.
( الدستور )