"ابدأها بخطوة"

تنطلق مساء غدٍ السبت المرحلة الأولى من "رياضة المشي"، التي تنظمها أمانة عمان، بعنوان "ابدأها بخطوة"، وتشمل موظفيها والمجتمع المدني والمشاركين الراغبين من المواطنين.
قد ينظر البعض إلى هذا النشاط باعتباره أمراً ثانوياً أو ترفاً تمارسه نخب غير مطلّة على أزمات المجتمع والضغوط الاقتصادية، أو كجزء من ثقافة برجوازية معزولة عن السياق العام.
أحسب أنّنا بحاجة أن نعيد النظر بهذه القناعة، أو بصورة أدق أن نعكسها تماما، فنرى في مثل هذه الرياضة تغييرا جوهريا وضروريا لمواجهة التحول في أنماط الحياة وعاداتها، وإعادة النظر في العادات الاستهلاكية التي احتلت المجتمع خلال السنوات الماضية، وهي عادات مكلفة ماليا، مؤذية صحيّا ونفسيا على المدى البعيد، فضلا عن أنّها أقرب إلى "مجتمعات نفطية" تتناسب مع "مستوى معيشة" مختلف تماما مع أوضاعنا الاقتصادية.
عاداتنا اليومية والاستهلاكية باتت توفر كل شروط انتشار أمراض العصر، مثل السكري والضغط والسرطان والسُمنة والترهل الصحي والجسدي، نتيجة الجلوس ساعات طويلة في عمل مكتبي أو ركوب السيارات والحافلات أو الإدمان على التلفزيون والكمبيوتر والانترنت، أو الجلوس لساعات طويلة في جلسات حديث عائلي من دون أن يتوازى ذلك مع أنشطة مقابلة تحدّ من خطورة هذه العادات على صحة الإنسان الجسدية والنفسية، وحتى الذهنية.
ذلك لا يعني التقليل من شأن الظروف الاقتصادية القاسية والضغوط السياسية والاجتماعية، لكن المشكلة أنّنا ننتمي لثقافة يومية وعادات استهلاكية تعزز من النتائج السلبية لهذه الضغوط، بدلاً من مواجهتها والتخفيف منها.
قبل أشهر كتب الصديق العزيز الصحافي اللبناني حازم الأمين مقالا في "الغد" بعنوان "مشّاء عمّان الوحيد" ينتقد فيه ضمنا غياب ثقافة المشي في عمان واستنكاف الناس عن ممارستها حتى في الانتقال بين مناطق قريبة ومتجاورة بين بعضها.
والمفارقة التي يمكن رصدها في ساعات الصباح الباكر أنّ الأعداد القليلة التي نراها تمارس رياضة المشي في عمان يغلب عليها الطابع الغربي أو السياحي وأكثرهم من كبار السن، في حين لا يمارس كثير من العمّانيين أو سكان المدن الأخرى "المشي" كرياضة، وفي أغلب الأحيان يتعاملون معه عند ضرورة الانتقال بين مكانين، وثمة فرق ثقافي ونفسي بين الحالتين.
بلا شك، العادات اليومية والاستهلاكية لا تقف عند "رياضة المشي"، بل تشمل كثيراً من جوانب الحياة، ولعل أهمها احترام الوقت واستثماره، وقد كتبت سابقا عن الفرق في عادة "المطالعة" في الانتقال بالطائرات والحافلات والجلوس في المنازل بيننا وبين الغرب.
لا يمكن تجنّب أنماط استهلاكية جعلت العالم قرية صغيرة، وتسود في أغلب دول العالم، لكننا، كما يصف مالك بن نبي قبل عقود، أخذنا العادات الثقافية في بعدها السلبي الاستهلاكي من دون الجوانب الإبداعية الإيجابية، ما خلق تشوهات اقتصادية واجتماعية ونفسية.
ثقافات المشي والقراءة واستثمار الوقت وأوقات الفراغ وتنظيم نمط الاستهلاك ليتناسب مع المدخول المالي وتنظيم العادات الغذائية واليومية ليست أمرا ثانويا، بل باتت شرطا رئيسا لمواجهة آفات العصر، وإلا فسيكون الإنسان وصحته وحياته وأوضاعه المالية والاجتماعية فريسة سهلة لهذه الآفات والضغوط!
( الغد )