إعادة ترتيب النفس والحياة في رمضان

يحتاج الإنسان دائماً إلى محطة تقويمية يعيد النظر في كل مرحلة من مراحل حياته، وسوف يجد أنّ هناك أموراً كثيرة كانت بحاجة إلى حذف أو تعديل، وأموراً أخرى كانت ناقصة والحاجة ماسة إليها، وأعتقد أن هذا شيء طبيعي، ولكن السرّ يكمن في إدراك شدة الحاجة إلى هذه الوقفة التقويمية، وإلى المراجعة الدائمة بطريقة علمية مبسطة مستمدة من الخبرة الحياتية العادية، وشعار الحياة ينبغي أن يكون دائماً البحث عن الأفضل والأسهل والأقل كلفة والأقل جهداً والأقل وقتاً، والأكثر إنجازاً والأقل أخطاءً.
هذا شأن الإنسان الذي يبحث عن النجاح والتقدم والتطوير نحو الأجمل على صعيد النفس والعمل والعائلة وطريقة الحياة، وشبكة العلاقات مع المحيط بكل أبعاده.
وهذا هو شأن كل كيان حي، وكل مؤسسة تبحث عن النموّ والتطور، والتكيف مع تغيرات الزمن وعوادي الدهر، من خلال عملية بسيطة تتلخص بطرح مجموعة من الأسئلة تتعلق بالأهداف والغايات البعيدة والقريبة الأمد، ومن عوامل نجاح عملية التقويم القدرة على إشراك الآخرين معك، من أصحاب الشأن ومن الأطراف الداخلية في دائرة الاهتمام.
هذه المقدمة أسوقها بين يدي (رمضان)، ومن خلال فهم فلسفة رمضان العبادية والتشريعية، ومن خلال الوقوف على أهم المقاصد الحقيقية التي يستطيع عقل المسلم التوصل إليها.
فرمضان محطة مراجعة وتقويم سنوية، تتعلق أول ما تتعلق بالنفس الإنسانية بشكل فردي، ثم مؤسسة الأسرة، ثم مؤسسة المجتمع والأمة بشكل أوسع وأكثر شمولاً وعمقاً.
فعلى مستوى النفس الإنسانية بشكل فردي، هي محطة مراجعة وتقويم لأهم عملية تستغرق جهد الإنسان وفكره وهي السير نحو تزكية (النفس) البشرية الآدمية من أوهان المادة، وأثقال الشهوة وأسباب التعلق بتوافه الأمور، من أجل امتلاك القدرة وأوراق القوة على السموّ بالنفس نحو آفاق علويّة سامية من حيث الأخلاق والاهتمامات والتطلعات والطموحات والتعلق بمستويات الروح المحلقة في عالم المثل فيريد الانتقال بها نحو الشعور بالمتعة وهو يمارس أخلاق التسامح والتعاون، ومد يد الخدمة للمحتاجين، ويشعر بمزيد من المتعة وهو يمضي معظم أوقاته في الانشغال بالهمّ العام، وتحرير الأمّة والذود عن الأوطان والبحث عن أسباب الوحدة والقوة، والبحث عن تكبير سهمه في المشاركة في المشروع النهضوي العربي الإسلامي الكبير على مستوى الكون.
وعلى مستوى العائلة، إعادة ترتيب شؤون العائلة والأسرة التي تُعد اللبنة الأساسية في تكوين المجتمع الكبير، من حيث قيامها بدورها الداخلي الخارجي.
الداخلي، من حيث الترابط العائلي وتماسك الأسرة، وفحص حبل المودة والرحمة الذي يربط بين أركان الأسرة وأطرافها، ثمّ الانتقال نحو ترشيد الاستهلاك ومنع السرف في الطعام والشراب والطاقة، وتنظيم شؤون العائلة على نحو حكيم مقدر دون حظ للشيطان، فرمضان مناسبة عظيمة لتقليل التعلق بأصناف الأكل وأطايب الطعام، وتقليل التعلق بأنواع الشراب، وأنواع الحلويات، ومحاولة الوقوف على فلسفة رمضان الذي يعلمنا دورة جماعية للمجتمع كلّه في التقشف، والرضى بالقليل والاكتفاء بوجبة واحدة خفيفة تعين الناس على الانصراف إلى العبادة وصلاة التراويح وقيام الليل، من أجل أخذ جرعة روحية عميقة على حساب الشَرَهْ وتعلق النفس بالملذات، ووقف جماح النفس نحو الانزلاق إلى درك الاستغراق في شهوة البطن الجارفة.
ونريد أن نعلّم الأبناء الصغار أنّ رمضان شهر التقشف، والروح والسموّ والعبادة وتخفيف الأوزان المادية، وتعظيم ميزان الآخرة بالإقبال الكلّي على الله. ينبغي أن نحارب تلك الأفكار التي تجعل من رمضان شهر الطعام والشراب والسهر والنرجيلة، والتخمة وبلادة الذهن وإشباع النهم وزيادة جماح النفس نحو طلب المزيد من الحلويات والدهنيات، والإقبال على الأفلام والمسلسلات التي تزيد الطين بلّة.
أمّا على صعيد المجتمع والأمّة، يجب أن نبحث عن سرّ القوة المفقود الذي جعل من أمّة الإسلام أمّة ضعيفة مفككة، تسودها النزاعات والحروب الداخلية وأصبحت أوطانها مطمعاً للغزاة والمحتلين واللصوص وقطاع الطرق الذين ينهبون من خيرات الأمة ويبددون ثرواتها، أين هو سرّ القوة المفقود؟
إنّه يتجلى في تقوية الروابط بين مكونات الأمة وبين العائلات والأسر والشعوب الذي يجعل منها أمّة واحدة متماسكة، تدرك ديناميكية الوحدة الحقيقية التي تستعصي على الاستغفال والاستخفاف والظلم.
( الراي )