بواد غير ذي زرع

في مناسك "العمرة" فرصة لتهذيب الذات ووضعها في حجمها الطبيعي ومداواة عللها. ما أنت إلا نقطة في بحر جماهير طافت وسعت في ذات المكان منذ آلاف السنين. تختار مدارك حول الكعبة المشرفة مثل ملايين الأفلاك السابحة المسبحة لربها. وصف إبراهيم عليه السلام المكان الذي بنى فيه الكعبة "بواد غير ذي زرع"، ومع ذلك ظل على مدار التاريخ مهوى الأفئدة والأرواح التي تهجر الخضراء وتثيب إلى هجير الصحراء، وكأنه كير ينقي أنفسها من الخبث.
بواد غير ذي زرع لا شيء غير الصخور الصلبة سواء في بناء الكعبة أم في جبلي الصفا والمروة، ومن تلك الصخور تفجر ماء زمزم ليروي هاجر وابنها إسماعيل اللذين تركهما إبراهيم "بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم". والتحريم هنا ليس للحجر الذي هدم وبني غير مرة بحسب احتياجات الإنسان، وإنما للحياة. حتى في أبسط صورها؛ فالصيد محرم. والدم لا يراق إلا لإنقاذ الحياة، كما في فداء إسماعيل. وقد افتخر النبي عليه السلام أنه ابن الذبيحين. خاطب الكعبة بقوله إنك عند الله عظيمة ولكن زوال السموات والأرض أهون عند الله من سفك دم امرئ مسلم.
يتفجر الصخر حياة ليس بالماء وحده، بل بالأحياء الطائفين والساعين، فيغدو ذا زرع. تتجسد فيه قيمة الحياة "حرما آمنا"، وغاية الحياة البشرية أن تكون كذلك. ولا تكون آمنة إلا بالمساواة. في الحرم تتجسد تلك القيمة. إحرام يساوي الكفن الذي يذهب معك للقبر، ولا تتقدم ولا تتأخر إلا بقربك من صاحب البيت والكل عليه ضيوف. لا فرق بين رجل وامرأة ولا صغير ولا كبير ولا غني ولا فقير ولا أبيض ولا أسود. أنه المشهد الذي هز مالكوم إكس، داعية حقوق السود الشهير، فكتب لصديقه عن رحلة الحج "إنك لا تصدق أنني أتناول الطعام مع رجل أبيض".
تبدأ المساواة ويتحقق العدل عندما تدرك أنك لست أعلى شأنا من الأسود، فستار البيت أسود ولباس الإحرام أبيض، والحياة ألوان لا تنتهي. ونزع الشعور بالتفاخر، لونا وجنسا وقوما ودرجة وطبقة، يحتاج إلى رياضات روحية شاقة كالعمرة والحج والصيام وغيرها. ولا تضبط حياة البشر بالقوانين والأنظمة بقدر ما تستقيم بالتربية والتهذيب، والحافز والجاذبية يتقدمان على الردع والعقاب.
في المرة الأولى التي زرت فيها البيت الحرام، عام 1974، كنت في الخامسة. في عيون الطفل علقت مشاهد المساواة تلك. اصطحبنا الوالد في رحلة الحج، سكنا في خيمة في منى. والحياة البسيطة في الخيام تجعلك تعيش لأيام حياة اللاجئين والمشردين، جيراننا كانوا أتراكا يعيشون في خيام أيضا. وفي السعي تسمع كل اللغات وإن كان اللسان العربي يوحدها. تدرك أن في الحياة قيمة أعلى من المادة وأن الملايين هذه جاءت من كل فج عميق سعيا وراء ما وراء ما يلمسون ويشاهدون.
أسبوع غبت فيه عن معتاد الحياة، وشاركت آخرين في حياة أخرى. آملا أن يجعلني ذلك أقرب إلى"الجماهير" التي غبت عنها، ولم تتظاهر احتجاجا!
( الغد )