الكلام .. بين السرايا والقرايا!!
تم نشره الأحد 08 آب / أغسطس 2010 03:58 صباحاً

خيري منصور
عندما سمعت لأول مرة في طفولتي عبارة كلام السرايا وكلام القرايا ، لم يخطر ببالي أن القرايا هي جمع قرية ، ولا أدري لماذا كان القرويون ولا يزالون يتصورون أنهم يعيشون على الهامش ، وهذا ما كرسه قروي عريق عندما قال: لا تسكن الأرياف ان رمت العُلا.
لكن الأيام قدمت تكذيبا لهذا التصور ، فجاء من أقصى القرى نساء ورجال منهم علماء ومثقفون وساسة ، لكن تلك العبارة بقيت اصداؤها في الذاكرة ثم كان لا بد من تأويلها لتشمل ما هو أبعد من دلالاتها المباشرة بمرور الزمن. ان كلمة السرايا تعني السلطة وهي تعبير رمزي عن الكلام القابل للصرف ، مقابل ذلك الكلام المجاني الذي لا يقبل الصرف والذي يصدر عن أناس عاديين ، ولو دققنا النظر في هذا المفهوم لوجدنا أنه تاريخي بامتياز ، فالكلام نوعان ، أحدهما بلا نفوذ ويتلاشى مع الأثير والآخر ذو نفوذ ويترجم على الفور ، لكن أحد العلماء لم يقتنع بهذا التقسيم ، فعرض على طلابه في جامعة كمبردج نماذج من أقوال منسوبة الى مشاهير وذوي نفوذ ، لكنها بلا تواقيع وبالمقابل عرض عليهم أقوالا لأناس عاديين ، فكانت النتيجة صادقة ، ولم يأبه معظم الطلاب لتلك المقولات التي تنتمي الى الكلام الكبير ، لكنهم توقفوا بتأمل وجدية عن الأقوال الاخرى ، واستنتج العالم من هذه التجربة أن الكلام الذي ينسب الى ذوي جاه ونفوذ يُمارس على من يسمعونه ضغطا نفسيا غامضا ، وكأن هؤلاء المشاهير لا ينطقون عن الهوى ، أو معصومون ، لكن من قال خذوا الحكمة حتى من أفواه المجانين ، دشن مرحلة اخرى من الديمقراطية قدر تعلقها بالتعبير ، فالمجانين لا يخافون لهذا يجازفون بما لا يقوى عليه العقل ، خصوصا اذا كان هؤلاء العقلاء ممن يحسبون كل حرف يصدر عنهم رعاية لمصالحهم.
وقد أثبت التاريخ عبر مختلف الأزمة ان كثيرا من كلام السرايا يصبح في مهب النسيان ، لكن الكلام الآخر النازف من جراح بشر يكابدون ويقطرون الكلام من كثافة الدم يبقى.
وحين قال الشاعر الراحل الجواهري ان جراح الضحايا فمّ ، لم يذهب بعيدا عن الحقيقة خصوصا وان مناسبة هذا الشعر كانت استشهاد شقيقه جعفر.
الكلام لا يستمد اهميته من قائله ، بل من منطقه الداخلي ومدى تماسكه وقابليته للاستيعاب ، لكن ما مرت به البشرية من تجارب مريرة وانماط من الخضوع القسري رسخ لديها مفاهيم عصية على التلاشي ، وقد تدمى أكف الناس من التصفيق على كلام معين لانه يصدر عن اناس اقوياء ، وبيدهم ان يلبوا الحاجة او يحولوا دون تحقيقها ، لهذا فالاسترضاء يقابله على الدوام الاستعداء ، لان تاريخ الوشاية وتقمص الببغاء والحرباء معا يدفع البشر الى قول ما لا يريدون ، واحيانا تصبح ذريعة الانحناء كي تمر العاصفة ثقافة مبثوثة في كل التفاصيل ، ما يبدأ من الانحناء للعواصف يصبح بالتعود والتأقلم انحناء لنسمة هواء،.
كلام القرايا هو ما يصدر عن المثقف الاعزل الا من لسانه وقلمه ، او هو ما ينزف من فم شقق من الظمأ وليس مليئا بالماء او اي سائل اخر ، لهذا يستخف بهذا الكلام وان كان الزمن احيانا يعيد اليه اعتباره المغتصب ، وصدقه المسلوب ، وحين قال المتنبي ذات قصيدة بان لسانه من الشعراء لكن قلبه من السلاطين ، كان يعبر عن هذه الازمة الزمنة التي عاشتها ثقافتنا منذ انشطرت الى كلام قرايا وكلام سرايا،،.
الدستور
لكن الأيام قدمت تكذيبا لهذا التصور ، فجاء من أقصى القرى نساء ورجال منهم علماء ومثقفون وساسة ، لكن تلك العبارة بقيت اصداؤها في الذاكرة ثم كان لا بد من تأويلها لتشمل ما هو أبعد من دلالاتها المباشرة بمرور الزمن. ان كلمة السرايا تعني السلطة وهي تعبير رمزي عن الكلام القابل للصرف ، مقابل ذلك الكلام المجاني الذي لا يقبل الصرف والذي يصدر عن أناس عاديين ، ولو دققنا النظر في هذا المفهوم لوجدنا أنه تاريخي بامتياز ، فالكلام نوعان ، أحدهما بلا نفوذ ويتلاشى مع الأثير والآخر ذو نفوذ ويترجم على الفور ، لكن أحد العلماء لم يقتنع بهذا التقسيم ، فعرض على طلابه في جامعة كمبردج نماذج من أقوال منسوبة الى مشاهير وذوي نفوذ ، لكنها بلا تواقيع وبالمقابل عرض عليهم أقوالا لأناس عاديين ، فكانت النتيجة صادقة ، ولم يأبه معظم الطلاب لتلك المقولات التي تنتمي الى الكلام الكبير ، لكنهم توقفوا بتأمل وجدية عن الأقوال الاخرى ، واستنتج العالم من هذه التجربة أن الكلام الذي ينسب الى ذوي جاه ونفوذ يُمارس على من يسمعونه ضغطا نفسيا غامضا ، وكأن هؤلاء المشاهير لا ينطقون عن الهوى ، أو معصومون ، لكن من قال خذوا الحكمة حتى من أفواه المجانين ، دشن مرحلة اخرى من الديمقراطية قدر تعلقها بالتعبير ، فالمجانين لا يخافون لهذا يجازفون بما لا يقوى عليه العقل ، خصوصا اذا كان هؤلاء العقلاء ممن يحسبون كل حرف يصدر عنهم رعاية لمصالحهم.
وقد أثبت التاريخ عبر مختلف الأزمة ان كثيرا من كلام السرايا يصبح في مهب النسيان ، لكن الكلام الآخر النازف من جراح بشر يكابدون ويقطرون الكلام من كثافة الدم يبقى.
وحين قال الشاعر الراحل الجواهري ان جراح الضحايا فمّ ، لم يذهب بعيدا عن الحقيقة خصوصا وان مناسبة هذا الشعر كانت استشهاد شقيقه جعفر.
الكلام لا يستمد اهميته من قائله ، بل من منطقه الداخلي ومدى تماسكه وقابليته للاستيعاب ، لكن ما مرت به البشرية من تجارب مريرة وانماط من الخضوع القسري رسخ لديها مفاهيم عصية على التلاشي ، وقد تدمى أكف الناس من التصفيق على كلام معين لانه يصدر عن اناس اقوياء ، وبيدهم ان يلبوا الحاجة او يحولوا دون تحقيقها ، لهذا فالاسترضاء يقابله على الدوام الاستعداء ، لان تاريخ الوشاية وتقمص الببغاء والحرباء معا يدفع البشر الى قول ما لا يريدون ، واحيانا تصبح ذريعة الانحناء كي تمر العاصفة ثقافة مبثوثة في كل التفاصيل ، ما يبدأ من الانحناء للعواصف يصبح بالتعود والتأقلم انحناء لنسمة هواء،.
كلام القرايا هو ما يصدر عن المثقف الاعزل الا من لسانه وقلمه ، او هو ما ينزف من فم شقق من الظمأ وليس مليئا بالماء او اي سائل اخر ، لهذا يستخف بهذا الكلام وان كان الزمن احيانا يعيد اليه اعتباره المغتصب ، وصدقه المسلوب ، وحين قال المتنبي ذات قصيدة بان لسانه من الشعراء لكن قلبه من السلاطين ، كان يعبر عن هذه الازمة الزمنة التي عاشتها ثقافتنا منذ انشطرت الى كلام قرايا وكلام سرايا،،.
الدستور