اغنياؤنا المدقعون!!

سبعة وثلاثون مليارديرا اقتفوا خطوات بيل غيتس وقرروا التبرع بنصف ثروتهم لاهداف انسانية. وكان غيتس رائدهم في هذا الموقف الاخلاقي النبيل. واستطيع ان اتخيل ذلك الرجل الذي تصدر لعدة مرات قائمة اثرى الاثرياء في مجلة فوريس وهو يروي لاصدقائه ما تغير من حياته بعد ان تبرع بثروته الطائلة ، اتخيل مثلا انه لم يعد يخاف من الموت وانه ينام باستغراق وبلا كوابيس ، وقد حقق توازنا يستحيل على الاخرين ممن يطمئنون على حساباتهم كل دقيقة ان يحققوه،.
لقد اعادني هذا الموقف الذي بدأه غيتس وسار على دربه سبعة وثلاثون من اغنى اغنياء العالم بمقالة كتبها الراحل طه حسين في اربعينيات القرن الماضي تحت عنوان صريح ومباشر وعلى يساره اشارة تعجب.. كان المقال بعنوان اغنياؤنا واغنياؤهم ، قارن فيه بين موقف اغنياء العالم العربي واغنياء فرنسا بالتحديد التي عرفها عن كثب وعاش فيها اعواما.
كان طه حسين قد عرف الكثير عن تبرعات الاثرياء والشركات في فرنسا من اجل الثقافة ورعاية العلوم والفنون وتقديم العون للمحتاجين وبالمقابل كان يرى ببصيرته رغم فقدان البصر كيف يعيش اثرياء زمانه ويسخرون من الفقراء واحيانا من العلماء ، وكانت عبارة فلان ادركته مهنة الادب قد ازدهرت في ذلك الوقت فمات من الادباء من مات في حافلة لنقل الركاب بعد ان صفعه السائق لانه طلب منه ان يخفف السرعة وكان اسم هذا الاديب محمد عبدالحليم عبدالله الذي شاهد الناس افلاما رومانسية عديدة مأخوذة عن رواياته في مقدمتها شجرة اللبلاب.. ولو صدقنا ما يقوله بعض مؤرخي تلك الفترة فان مثقفا ومناضلا عاد من المنفى ثم مرض ومات وبقي عدة ايام محروما من كرامة الدفن لعدم وجود تكاليف الدفن لدى عائلته.
القائمة تطول لو شئنا استذكار من قضوا وهم منسيون على الهامش ، وللمثال فقط نذكر نهاية الشاعر السياب الذي تزامن دفنه في مسجد لم يكن فيه من المصلين على جثمانه سوى اربعة رجال مع عرض اثاث بيته للبيع في المزاد لان مصلحة الضرائب لم يكن المسؤولون فيها يعلمون ان هناك شاعرا يعالجه الاجانب في لندن وانه مات في يوم العقاب ذاته.
وقد لا يعرف البعض منا ان معظم المشاريع الثقافية ذات البعدين القومي والانساني يمولها في العالم الغربي القطاع الخاص ، وهذه تقاليد ورثتها اوروبا عن الكونتات والامراء الذين كانوا يرعون الفنانين والمبدعين في قلاعهم،. اعرف ان الناس سئموا من مثل هذه المقارنات لانها متكررة وعديمة الجدوى ، والاغنياء خصوصا اذا كانوا من محدثي النعمة يسخرون من مثل هذه المقارنات مثلما سخر بعض اغنياء الاحتلال والكمبرادور من طه حسين عندما كتب مقالته تلك.
اخيرا ، الا يغاد اغنياؤنا من اغنيائهم؟ ام ان الثروة احيانا تصيب الانسان بالعمى؟.
الدستور