تغيير استراتيجي لا يقبل التأجيل

مع موسم القبول في الجامعات يقع أهالي الطلبة في حيرة شديدة بين الخيارات الأكاديمية التقليدية التي ارتبطت بالصيت الاجتماعي، لكنها تعاني اليوم من صعوبات في الشروط المالية ومن البطالة العالية بين الخرّيجين، وبين خيارات مهنية وعملية، لكنّها تقع ضمن التصنيف الاجتماعي والمهني المتوسط.
جزء أساسي من المشكلة يقع في هيكل العلاقة بين مخرجات التعليم ومراحله وشهاداته وبين متطلبات سوق العمل المحلي والمجاور، وعدم تكيف "رأس المال البشري المحلي" لتغطية احتياجات العمل هذه، بما يكفل مواجهة الضغوط الاقتصادية التي تشكل الهاجس الرئيس للشريحة العظمى من المواطنين، وتعززها نسبة مرتفعة من البطالة غير المبررة. يمكن فقط النظر ببعض الأرقام التي قدّمها د. عمر الرزاز في تقديمه لاستراتيجية التشغيل الوطني لنكتشف حجم "المفارقة" المذهلة، التي تصيب بالذهول والصدمة. إذ تشير الأرقام إلى وجود 420 ألف عامل وافد (تصوّروا!) في سوق العمل المحلية، وهو رقم ضخم جداً كفيل بحل مشكلة البطالة المحلية من جذورها، في حال قامت الحكومة بخطوات استراتيجية جريئة وجذرية.
ثمة مهن مغلقة، لكن هنالك في المقابل "مهن مفتوحة" كبيرة جدا، أمام العمالة الوافدة لأسباب رئيسة، منها ضغوط أصحاب العمل، وضعف الإعداد المهني والعلمي للعمال الأردنيين للانخراط فيها، ولعدم توفير قوانين العمل الشروط الأساسية لاستبدال العمالة الخارجية بالمحلية، مثل الحد الأدنى للأجور، والضمان الاجتماعي، والتأمين الصحي، وضوابط الفصل التعسفي، وجزء من ذلك (وليس كله) مرتبط بالثقافة الاجتماعية. هذه المفارقة حاضرة، منذ سنوات، في إدراك مطبخ القرار، وهنالك إشارات عليها، مثل حديث وزير التعليم العالي عن إعادة هيكلة التعليم الأكاديمي والمهني، بما يعزز من الأخير ويعطيه فرصاً أفضل في المستقبل.
المشكلة أنّ التعامل ما يزال إلى الآن يتم بطريقة القطعة والحلول الجزئية غير المستدامة، من دون تقديم تصور استراتيجي متكامل بين القطاعات كافة، مؤطر زمنياً يربط بين إعادة بناء مخرجات التعليم وربطها بسوق العمل وفرصها، وتوفير شروط نماء قطاعات اقتصادية معينة وإعادة النظر في قوانين العمل لحماية الطبقة العاملة، وحملة إعلامية واسعة لتسويق هذا التصور، بما يخدم الاقتصاد الوطني.
يمكن البدء بمهن مفتوحة معينة تمتلئ بالعمالة الوافدة، مثل قطاع الخدمات والسياحة، بخطة مرحلية لإغلاقها خلال سنوات معينة، بعد تأهيل العمالة الأردنية المطلوبة فيها، وتوفير الشروط المناسبة لذلك. الحكومة واجهت عجز الموازنة وعبء المديونية بحلول مالية، قد تخفف من مخاطر الازمة المالية، لكنها، حتى في القراءة الرسمية، لا تحل الأزمات الاقتصادية من بطالة وفقر، والتي تنعكس مخرجاتها بصورة مباشرة وواضحة على المعادلة السياسية.
نحتاج إلى قرار سياسي بتغييرات جذرية مبنية على رؤية اقتصادية وطنية يضعها خبراء اقتصاد وإدارة بالتعاون مع سياسيين ومتخصصين، تقدم لنا خريطة عمل واضحة ومفصلة لمسارنا الاقتصادي المقبل.