بالعَرَق لا بالحًبْر!

قبل ثلاثين عاما كانت درجة الحرارة عندما تبلغ خمسا وأربعين مئوية يبدو الجحيم كما لو أنه اقترب ، لهذا كتب في تلك الأيام الكاتب العراقي المعروف محمد خضير عملا أدبيا بعنوان الكتابة في خمس وأربعين درجة ، تعبيرا عن وجوده في البصرة قبل أن تتحول الكتابة فيها من الحبر الى العرق.. وأخيرا الى الدم،.
نحن الآن جميعا نكتب في هذه الدرجة الجحيمية حتى لو توفرت أجهزة التكييف فهي ليست موجودة في شوارع مسقوفة ، والانسان لا يستطيع أن يضيف الى المعلبات التي يأكلها هواء معلبا يأكله أيضا.
كما تغير التاريخ ، تغيرت أيضا الجغرافيا ، وها هو التحالف الشيطاني في ذروته بينهما ، ولا أدري لماذا يربط الناس حتى على نحو رمزي بين نظام سياسي جديد أعقب الحرب الباردة ونظام جغرافي قدم أطروحته في الفوضى المدمرة ، ان هذا التحالف ينال الآن من روح الانسان ولحم جسده وأصبح على الفقراء أن يتورطوا بالمزيد من القروض والديون وفنون الربا كي يضيفوا الى الموبايل وفواتيره الباهظة فاتورة الكهرباء عن الهواء المعلب،.
وذات يوم كان الناس يعتقدون ان أقسى منفى هو ذلك المكان الذي تتداخل فيه الفصول ، لهذا نفي الامبراطور الروماني شاعر الحب اوفيد الى هذا المكان ، ونحن نعرف بأن هناك شهورا في العام يختصر اليوم الواحد فيها الفصول الأربعة ، أما الذي قيل عن قوم أصبح صيفهم شتاء وشتاؤهم صيفا فهو لم يعد تعبيرا مجازياً.
لقد فاض الفساد عن مساحة السياسة والاقتصاد والتاريخ ليشمل المناخ ، وها هي الأجراس تقرع تباعا منذرة بحرارة لا يقوى الانسان أو حتى الكهرباء على احتمالها في الأعوام المقبلة ، كما أن هناك فيضانات في الطريق اذا واصل جليد القطب الذوبان سيكون ما حدث في باكستان مجرد عينة منها للعرض فقط،.
وما كان للتاريخ أن يصبح غاشما وذا بعد واحد ويلوى عنقه كي يغير مجراه لولا ان التدجين ومدارسه وفقهاءه حولوا البشر الى دجاج لاحم.
وهذا ما حدث ايضاً للجغرافيا ، فالزفير اللاهب الذي تلفظه عواصم الصناعات لم يثقب الأوزون فقط بل ثقب طبلة الأذن لكل الكائنات ، فلا أحد يسمع وعمّا قريب قد يتحول العمى الموسمي الى وباء،.
ما الذي صنعناه كبشر بأنفسنا أولاً؟ وبالعالم من حولنا ثانيا وبأحفاد أحفادنا ثالثاً ، فمن أقنع ركاب السفينة بأن من حقه أن يثقبها تحت مقعده سوف يدفع الثمن أيضا حتى لو كانت له غريزة ومهارة الفئران في القفر طلباً للنجاة،.
قبل ثلاثين عاماً كان العربي الذي يكتب في درجة تصل الى خمس وأربعين مئوية يختلط حبره بعرق جبينه وما يتصبب من وجهه ، ثم شاء لنا التاريخ الغاشم أن نكتب بالدموع وأخيراً لم نعد نجد غير الدمع ، لأنه يرشح من كل شيء.. من شاشات التلفلزيون والذاكرة وشراشف الأطفال والخشب الذي يرتعش لأنه سوف يتحول الى توابيت وليس الى مهود .
( الدستور )