الكتابة ليست طاقية إخفاء

لو نكتب واحدا بالالف مما يدور في مجالسنا وما نهمس به أو نجهر به احيانا لكان الحال غير الحال ، لكن هناك على ما يبدو اساليب سرية للتعبير ، ولدى كل واحد حاسوب دقيق وبالغ الذكاء ، فهو يعرف من اين تؤكل الاكتاف عندما يقتضي الامر ويعرف كيف يتجنب ويتقي وينحو عندما تأذن لحظة الاختبار..
نعرف مثلا ان النكتة التي تروى باللهجة الشعبية تفقد دسمها وتصبح باردة اذا رويت بالفصحى المتقعرة ، لكأن الكتابة هي في أحد ابعادها تدجين لما هو محكي وشفوي.
السائد في الكتابة أو من التدوين هو الاتزان والوقار والممالأة كي لا نقول النفاق ، لهذا يذهب اللون والطعم وتبقى الرائحة ، ولكل حبر رائحته التي بدأ الناس يحزرون مصدرها لأنهم غير مصابين بزكام الوعي.
في جلساتنا الحميمة أو حتى غير الحميمة ، نقول ما نفكر به وتتدفق الكلمات عارية كما وصفها الشاعر الروسي مايكوفسكي حين قال انها تشبه من يهربون من حمام شعبي يحترق حيث لا وقت لستر العورات أو الخجل لأن النجاة من الحريق أولى وأجدر من اي شيء آخر.
في الكلام الشفوي ثمة صراحة وكشف وجرأة على ملامسة المسكوت عنه والمحظور ، لكن ما ان تهاجر الكلمات من الفم الى الورق حتى تبرد ثم تفقد بالتدريج طزاجتها وصدقيتها لأنها تمر من خلال الفلتر المربوط بحاسوب ذكي يعرف بل يشم رائحة الربح والخسارة،.
اسباب ذلك ليست طارئة ، ولا تحمل الانسان العربي العبء كله فهو نتاج ثقافة احتلت النميمة منها مساحات واسعة واكمل الحذر المبالغ فيه احتلال ما تبقى ، فثمة خوف من التأويل واساءة الفهم لهذا يجب ان يكون المكتوب معقما ومنزوع الدسم والفاعلية ، كي تكون السلامة مضمونة ، وبوليصة تأمينها الوحيدة المراوغة واستخدام أشباه الجمل ، وهذا ما انتهى بنا الى حوار الطرشان،.
نذكر مثلا منذ طفولتنا كيف كان الزجر لنا بالمرصاد ، فالاسئلة المسموح بطرحها على البالغين محدودة ، وداجنة ولها اجابات محفوظة عن ظهر عصا وليس عن ظهر قلب أو قدم.
تعلمنا ان الكذب خير قارب للنجاة وقيل لنا ان الكذب الابيض لا غبار عليه ، ثم اكتشفنا ان ما يحدث للكذبة البيضاء هو ما يحدث للثلج عندما يتساقط فهو يبدأ ابيض ناصعا ثم ينتهي الى كرات بلون الزفت والقار.
ان تربويات الوشاية والاستعداء وتقويل الكلام ما ليس فيه والتدخل حتى في النوايا هي أقانيم ثقافة مضادة للحرية وتحقيق الذات ، فالآخر عدو الى ان يثبت العكس ، ومن يملك محسود وعدوه الفقير الحاسد ، حتى الطفل يعامل كما لو انه رجل قاصر وبمقياس ينكر عليه طفولته وحقه في الاخطاء التي سوف تعبّد له الطريق الى الصّواب،.
وذات يوم سيكتب المؤرخون القادمون اننا تعلمنا الكتابة كي نخفي ما نقول وبانتظار من يترجمون لنا هذا الصمت،.
( الدستور )