«فرضية» بحاجة لنقاش

تقول الفرضية: "إن السلطة الفلسطينية لن تلتفت لملف المصالحة الوطنية إلا بعد أن يرتطم رأسها بجدار الفشل السميك على مسار التفاوض مع الاحتلال" ، أما الأسباب الموجبة لهذه الفرضية فتتلخص في سببين اثنين: الأول ، أن السلطة ستكون حينئذ قد تحررت من الفيتو الإسرائيلي - الأمريكي على المصالحة ، والأهم من أوهام "المفاوضات حياة"....والثاني ، أن السلطة ستكون في وقتها بحاجة لحشد الطاقات ورص الصفوف استعدادا لخيارات وبدائل أخرى.
هذه الفرضية التي كانت صحيحة تماما زمن ياسر عرفات ، سقطت مرات متتالية خلال الأعوام القليلة الفائتة ، وكان ينبغي نعيها ودفنها ، إلا أننا آثرنا المماطلة والتسويف في استخراج شهادة الوفاة وتحرير بيان النعي ، ربما لشغفنا بالمصالحة والوحدة ، وعدم جاهزيتنا النفسية والأخلاقية بعد "للطلاق البائن بينونة كبرى" مع جزء كان عزيزاً ورئيساً من الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة ، لكن يبدو أن ضغط الحقيقة والواقع أقوى من "الإسقاطات والرغائب" في نهاية المطاف.
في الحرب الإسرائيلية البربرية على غزة ، توفرت الفرصة للحظة "قف وفكّر" ، بددها القومُ عن سبق الترصد والإصرار ، وأحياناً بالتواطؤ مع مقاصد الحرب ومراميها الشريرة...ومع مجيء نتنياهو وحكومة اليمين واليمين المتطرف ، أطلت الفرصة برأسها من جديد ، لكن الأوهام المختلطة بالضغوط ساهمت في إضعاف هذه الفرصة وتبديدها...ومع فشل محادثات التقريب لاحت الفرصة مجددا قبل أن تبددها الهرولة إلى المفاوضات المباشرة ، وسيظل الحال على حاله ، فرصة تأتي وأخرى تلوح ، فيما الانقسام الفلسطيني الداخلي يتفشى ويتمدد على الأرض ، وفي النفوس قبل النصوص.
اليوم ، تحزم السلطة حقائبها للالتحاق بركب المفاوضات المباشرة ، من دون أن يكون لها غطاء وطني فلسطيني ، وفي ظل أزمة شرعية ونصاب ومأزق نظام ومؤسسات ، وثمة تسريبات بأن السلطة ورئيسها يسكنهما شعور عميق بالتشاؤم حيال فرص نجاح هذا المسار ، لكنهم مع ذلك لم يترددوا في إنزال قوات الأمن و"بقايا الميليشيات" المذوّبة بالسلطة والأجهزة ، إلى الشارع لقمع حلفاء الأمس واليوم ، لقمع الشركاء في منظمة التحرير ، وبحجة سخيفة مشتقة من أسوأ ما في قاموس القمع العربي من مفردات وتشريعات: "اجتماع غير مرخص ومسيرة غير قانونية".
الانقسام الفلسطيني الذي قلنا أن فرص تجاوزه واجتياز تداعياته تزداد بازدياد قناعة سلطة رام الله بمأزق خيار "المفاوضات حياة" وفشله ، يبدو أنه مرشح للتجذر والتكريس والتعميق ، فنحن أبعد ما نكون عن المصالحة الوطنية اليوم من أي وقت مضى ، بل إن شبح الانقسام يطل برأسه من داخل مؤسسات منظمة التحرير وتحالفها ، والعلاقة بين أجهزة سلطة رام الله والمجتمع المدني والشخصيات الوطنية ، تشهد اضطراباً غير مسبوق منذ الانقسام الأخطر بين فتح وحماس ، غزة والضفة.
يقودنا ذلك كله إلى إعادة اكتشاف المعادلة التي حكمت علاقة "السلام" بـ"الحرية والديمقراطية" في العالم العربي ، والتي مرت بسنوات عجاف بعد توقيع كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية ، حيث لم يكن السلام مع الإسرائيل على تناغم ووفاق مع خيار الحرية والديمقراطية ، بقدر ما كان توطئة للمراوحة والتراجع والانتكاس على هذا الطريق.
الفارق بين الحالة الفلسطينيية من جهة والحالة المصرية والإسرائيلية من جهة ثانية ، أن القمع في الحالة الأولى يسبق استتباب السلام واكتمال حلقاته وتوقيع معاهدته وبروتوكولاته ، بينما جاء في الحالة المصرية لاحقا لتوقيع المعاهدة وعاملاً على تثبيتها وصونها ، وليس مستبعداً أبداً أن تكون النتيجة فلسطينيا ، لا سلام ولا حقوق ولا حريات ، بل "كيان بوليسي" ينهض على "فلسفة دايتون ومخرجاتها من أجهزة ومؤسسات وعقلية أمنية" أقرب ما تكون لبلاك ووتر وأبو غريب وسجون الداخلية السرية.
من هنا أقترح على نشطاء المصالحة ووسطائها أن يخفّضوا سقف توقعاتهم بعد اليوم ، وأن يكفوا عن عقد الآمال والرهانات على "انسداد آفاق التسوية التفاوضية" وما يمكن أن يفضي إليه من "عودة الوعي والروح" أو "التحرر من قيود الفيتو الإسرائيلي والأمريكي المزدوج" ، فالانقسام أخذ يتغذى بعوامل أخرى غير"صعود وهبوط العملية السياسية" ، والقمع لم يعد مرتبطاً بالتنيسق الأمني الهادف تصفية المقاومة (الإرهاب) فحسب ، بل بات مندمجا أيضاً بحسابات استمرار السلطة والبقاء فيها ، وتراجع عملية السلام أو حتى انهيارها ، لن يفضي إلى انتعاش فرص المصالحة ، بقدر ما سيؤدي إلى تزايد قبضة الأمن وتفعيل قوانين الاجتماعات العامة و"محاربة الإرهاب" وتكثيف الحملات على المجتمع المدني والفصائل والمساجد والمؤتمرات والصلوات العامة ما لم تكن حاصلة على إذن وترخيص مسبقين.
( الدستور )