«اطلبوا الحكمة ولو من رام الله ؟!»

إذا صحت الأنباء بأن حكومة سلام فيّاض ستوفر تسعة ملايين دولار شهرياً 108( ملايين دولار سنوياً) لمجرد سحب السيارات العمومية من موظفيها وتحويلها إلى إدارة مركزية تنظم استخدامها أثناء ساعات الدوام الرسمي ، وبما يخدم الأغراض العامة الرئيسة من شرائها واستخدامها ، أقول إذا صحت هذه التقديرات - وليس ثمة ما يمنع أن تكون صحيحة - فإن بمقدور الحكومة أن توفر أزيد من ضعف هذه المبلغ شهرياً إن هي فعلت شيئاً مماثلاً ، وأقدمت على ضبط حركة أكثر من عشرين ألف سيارة تحمل النمرة الحمراء.
إن أقدمت الحكومة على فعل شيء كهذا ، فربما يصبح بمقدورها أن تعدنا بأن "لا ضرائب جديدة حتى منتصف العام المقبل" ، بدل استمرارها في القول أن "لا ضرائب حتى نهاية العام" لكأن نهاية العام ستأتي بعد جيل أو جيلين ، وليس بعد عدد من الأشهر يقل عن أصابع اليد الواحدة.
كل حكومة خلال العشرين سنة الماضية ، جرّبت لفظيّاً على الأقل ، ولو لمرة واحدة فقط ، أن تلج عتبات ضبط حركة السيارات الحكومية ، لكننا ما زلنا نسير في الشوراع ونرى "النمر الحمراء" خارج أوقات الدوام الرسمي وفي أثنائه ، تنقل الزوجات والأبناء والخالات والحموات والعمّات والجدات في طول البلاد وعرضها ، لكأن ثمة تناسب طردي بين وعود ضبط الانفاق وترشيد حركة السيارات من جهة ومظاهر استخدامها غير المشروع من جهة أخرى.
لتحدد كل وزارة كم سيارة تحتاج في الحد الأدنى ، وليس الأقصى ، وليوضع في تصرفها هذا العدد من السيارات لا أكثر ولا أقل ، وليعين سائقون خاصون لهذه السيارات أو لندرب "بعض البطالة المقنعة" من الفئة الرابعة على السياقة إن تطلب الأمر ، ولينطلق الأسطول "الأحمر" صباحاً إلى أهدافه وليعد إلى مرآب الوزارة ساعة انتهاء الدوام ، وسنرى أن وفراً حقيقاً قد تحقق ، ولن نكون بحاجة لاقتطاع عشرة أو حتى خمسة بالمائة من رواتب الوزراء دعماً لصمود الموازنة وتخفيضاً لعجزها ؟،.
قيمة هذا الإجراء مزدوجة ، مادية ومعنوية (كنا نظن أنها معنوية فقط) ، فالذين تطحنهم الأسعار وينظرون باستهجان لأموالهم المبددة على الطرقات ، خصوصا حين تكون "النمر الحمراء" في عهدة موظف طائش "مش دافع من جيبته أو من عرق جبينه" ، هؤلاء سوف يريحهم إجراء كهذا ، وسوف يشرعون في تأكيد ثقتهم بحكومتهم وقدرتها على صرف أموالهم في مواقعها الصحيحة ، فدعونا نجرب هذا الأمر ، خصوصا إن تبين لنا أنه قد يأتي بضعف ما جاء به قرار حكومة فيّاض الأخير ، وفقا لتقديرات من يزعمون أنهم أهل اختصاص.
ولكي لا يختلط الحابل بالنابل ، فإنني استميح القراء عذراً إن هم فهموا من مقالة اليوم أنني أروّج لحنكة حكومة تصريف الأعمال أو حكمتها لا سمح الله ، فأنا آخر من قد يتهم بأمر كهذا ، كل ما في الأمر إنني ذهلت من حجم أرقام الوفر هناك ، وتذكرت أن لدينا هنا ، اسطولاً من السيارات الحكومية يكفي لنقل سكان مدينة أردنية متوسطة الحجم من مكان إلى مكان بـ"نقلة واحدة" فقط ، فقلت في نفسي لماذا لا نأخذ "الحكمة من رام الله" ونختصر على أنفسنا عناء السفر إلى الصين.
والحقيقة ان من يقرأ التقارير التي تنشر تباعا عن بلادنا في صحافة العالم والإقليم ، ينتابه قلق حقيقي وشعور بعدم الارتياح ، ويدرك تمام الإدراك أن الوقت قد أزف لاتخاذ خطوات غير مألوفة لمعالجة مشكلات العجز والمديونية وضعف النمو وتفشي البطالة والفقر والفاقة والعوز ، ويعلم علم اليقين أن استمرار التصرف كما لو أن "قوى غيبية" ستتدخل في لحظة ما لوقف الانحدار ، هو سلوك غير مسؤول وغير مقنع. فإذا كنا ندعو المواطن لتغيير بعض أنماطه الاستهلاكية التي نما عليها في العشريات الثلاث أو الأربع الأخيرة ، فمن باب أولى أن نقنع "الدولة" بالتخلي عن أنماط سلوكها الاستهلاكية ، وأن تكف عن التصرف كما لو أننا "دولة نفطية" من تلك التي تمتاز بكثافة الموارد وندرة السكان. إن المرء ليصاب حقاً بالذهول وهو يقرأ عن "تجديد مكتب" بكلفة كذا وكذا ، أو عن مهمة أو بعثة أو عقد بأرقام فلكية ، أقله من منظور "المنجمين" المحليين ، فنحن نعرف أن أرقامنا من "منظور الفساد النفطي" بالكاد تكفي لشراء الفستق والترمس ، ولكن الأمور تؤخذ بنسبيتها ، و"ع قد فراشك مد رجليك".
الدستور