بطالة تاريخية!!

رغم كل الطنين والحراك الصاخب الذي يميز امبراطوريات النمل وممالك النحل الا انها تبقى بلا تاريخ ، فما من عصور حجرية أو جاهلية أو وسطى لها ، لأنها تكرر العمل نفسه ما دامت على قيد الحياة ، وبالمقابل فان هناك مجتمعات لا تكف عن الحركة والضجيج وتجعجع على مدار اللحظة ، لكنها بالفعل عاطلة عن العمل لأنها عاطلة عن الوعي التاريخي الذي يميز الآدمي ويتيح له ان ينقد ذاته ويراجعها وبالتالي يستدرك اخطاءه ويتقدم.
والمجتمعات غير المنتجة على مختلف الصعد بدءا من غذائها حتى صناعاتها وقطع غيار الآلات التي تستخدمها قد تبدو في ظاهرها منهمكة وفي ذورة نشاطها ، لكنها في الحقيقة مجرد ردود افعال وانعكاسات لغيرها ، فهي لا تستورد فقط ما تأكله وتلبسه بل أنماط سلوكها ايضا ، لأن المغلوب محكوم عليه كما قال ابن خلدون ان يحاكي الغالب ويتماهى معه ، وليست حالة الخمول والاستنقاع التي تستبد بمجتمع الانتاج شلل جمعي اصاب النخاع ، وحين قال العرب فالج لا تعالج لم يعبروا عن اليأس فقط ، بل عن احساسهم بأن الطائر الذي يفقد جناحيه سوف يتحول الى وليمة للكلاب والقطط.
ان مفهوم البطالة ببعديها السياسي والتاريخي لا علاقة له الضجيج ، أو حتى دأب النمل وهو يكافح لتخزين مؤونة الشتاء ، وأول أسباب البطالة المعنوية ببعدها التاريخي هو أركان الفرد الى من يفكر نيابة عنه ويحلم نيابة عنه ، لكنه لا يموت نيابة عنه بل العكس هو ما يحدث ، ويروي لنا التاريخ ان أحد السلاطين في العالم القديم كان عندما يموت تخرج حاشيته الى الشارع وتسوق أمامها عددا من الناس الى المقبرة التي سوف يدفن فيها السلطان ، وذلك لكي يؤنسوا وحشته ويقوموا على خدمته ، وهذا ليس من نسج الخيال ، فقد استمرت ظلاله حتى وقت ليس بالبعيد في المجتمعات البدائية.
ان تعريف البطالة قدر تعلقها بالمجتمعات وليس بالافراد فقط ، يجب ان يأخذ في الاعتبار امرين ، اولهما ان المجمع الداجن والذي اسلم عقله لحزمة من الاعراف والتقاليد قرر مسبقا الاستقالة من التاريخ ، أما مكوثه في الجغرافيا فهو مسألة عضوية لا امتياز فيها على الحيوان والنبات والتراب،،.
ومن افرازات البطالة المجتمعية القطعنة وثقافة الامتثال والتنميط بحيث يصبح الفرد مطالبا بالتخلي الطوعي عن كل مزاياه لكي يتحول الى مجرد رقم أصم ، أو قطعة غيار يسهل استبدالها في اقل من دقيقة اذا تطلب الامر.
أما المفارقة في هذا الطراز من البطالة فهي ان الافراد يكدحون كالنمل ولا يكفون عن الحركة ، لكن حاصل جمع جهودهم هو صفر ، لان المجتمعات العاطلة سياسيا وتاريخيا لا تملك دينامية جمع ، وكأن أنهارها تتبدد في الطريق لأنه ما من مصب لها ، أو كأن امطار سمائها الغزيرة تسقط في غربال بسعة الارض،.
وقد يكون المثل المعروف عن الجعجعة بلا طحن مناسبا للتعبير عن البطالة المجتمعية ، لأن هذا النمط من المجتمعات المشلولة والمصابة بفالج لا يعالج ليس لديها حتى قمح لكي تطحنه فتطحن ابناءها وتجني على نفسها واحفادها كبراقش،،.
الدستور