نعيم الجهل وجحيم المعرفة

عندما حسد المتنبي الجاهل على نعيمه مقابل اشفاقه على ذي العقل لم يكن انيشتاين قد اضاف الى تاريخ العلم نظرية النسبية ، ولم يكن ماركس قد كتب رأس المال ، ولم يكن داروين وفرويد قد افتضحا عورات البشر على ذلك النحو الذي اظهر المستور ، ولم تكن الثورات بدءا من فرنسا قد قلبت مفاهيم العالم ولم تكن الموسوعات في عالم المعرفة قد اضاءت عوالم مجهولة ، ولم تكن دور النشر تصدر مئات بل ألوف الكتب يوميا ، ولم تكن الجامعات في العالم العربي بعدد محطات البنزين ولم يكن كل من طه حسين ومصطفى عبدالرزاق واخرون قد دفعوا ثمن المعرفة وطولبوا بالاعتذار عنها.
ولم يكن سيف الدولة الحمداني قد انجز عشرين دولة بمختلف طوائفها واطيافها وحروبها الاهلية ولم تكن امريكا قد ظهرت الى الوجود كي يمتطي جنودها اسد بابل في عز الظهيرة ولم تكن فلسطين تئن تحت براثن وبساطير غزاتها ، ولم تكن درجة الحرارة قد شارفت على الخمسين ولم تكن مباريات كرة القدم هي البديل الكاريكاتوري لحروب التحرير ولم يكن العباسيون والاميون يأكلون العنب والبطيخ في الشتاء رغم ان ارض السواد من شدة الاخضرار والغوطة كانت في ربيعها العربي.
ولقد حسد المتنبي واسمه للمفارقة ابو محسد الجاهل على نعيمه ، واشفق على العارف في جحيمه ، فما الذي كان سيقوله في ايامنا؟ وهل كان يجرؤ على القول بان الاعمى نظر الى وجهه وسمع الطرشان رنين كلماته ، او ان له انياب ليث اساءت الثعالب فهمها وظنته يبتسم؟
ما الذي كان سيقوله المتنبي لاهل زماننا عن المعرفة والجهل؟ وهل كان سيدفع حياته ثمنا لعبارة قالها وعيرها بها غلامه عندما تعرض للموت وكان طريق الفرار مفتوحا،.
الامر متروك لخيال الناس اذا تبقى لهم خيال بعد ان اصبحت الصقور سلاحف واسرجت الكلاب وفرّ الاسد من الغابة بحثا عن بحر يغرق فيه لان الكلب ربطه والقرد حل رباطه.
في احدى مسرحيات الراحل الماغوط يقايض العرب المعاصرون صقر قريش قبل اوانه ويصبح احدبا ويتوكأ على عود كبريت بدلا من العصا.
حتى وقت قريب كان شرّ البلية ما يضحك لكن متوالية البلايا وتحالفها افقدت الانسان القدرة على الضحك والبكاء معا لانه اوشك ان يفقد ادميته.
اخيرا وبعد هذا التجوال في بعض صفحات التاريخ الذي تحول الى سيرك ، خيوله داجنة تشبه دمى المطاط ونموره تعيش على فضلات العشب الذي تعف عنه الارانب نتساءل بقليل من البراءة وكثير من الاندهاش : كيف يمكن لانسان يعيش في عالم هذه سعته ، وهذه ثقافاته وقاراته ومعارفه وهذه موسوعاته واختراعاته وكتبه ان يبقى اسير كيلو متر مربع يضيق احيانا ليصبح بمساحة قبر؟
ان من يستطيع ذلك لا يحسده المتنبي فقط بل الفلاسفة والشعراء والفنانون بدءا من افلاطون حتى ميشيل فوكو،،.
( الدستور )