ديكتاتورية غير سياسية !

مثلما تعرضت الديمقراطية كمنجز مدني ونمط تفكير الى بعد واحد هو علاقة الحاكم بالمحكوم فان الديكتاتورية ايضا اختزلت الى الطغيان السياسي وحكم الفرد ، رغم ان المسألة تتخطى هذا الاختزال ، لتصبح مناخا تربويا مبثوثا في الحياة وثقافة غير احتكارية يشكل مفهوم الشراكة جذورها ، ولأن الواقع العربي بعد أن بلغ هذا المستوى الكارثي من الاستنقاع والعطن أصبح مجالا حيويا لخلط المفاهيم والأوراق والحوابل والنوابل ، فان الديكتاتورية التي فاضت عن حدودها السياسية تجلت اجتماعيا على نحو لا يصعب رصده ، بدءا من المدرسة والاسرة حتى الشارع ومجمل المشاهد في الحياة اليومية ، فسائق التاكسي ديكتاتور من حيث يعلم أو لا يعلم عندما يفرض على الراكب الموسيقى أو الاغنية التي يود سماعها وبالايقاع الذي يقرره ، وليس بامكان الفرد ان يعترض على ارتفاع درجة الحرارة أو انخفاضها من خلال اجهزة التبريد في المول أو المقهى أو دائرة العمل ، حتى التجارة والتعامل في الاسواق يفرز رائحة الديكتاتورية ، لان البائع يريد ان يفرض على المشتري السلعة المتوفرة لديه ، ومقاس الثياب والالوان التي غمرها الغبار على الرفوف.
وهناك آباء وأمهات يفرضون على الابناء دخول كليات معينة بخلاف رغباتهم وامكاناتهم لأنهم أنانيون ، خصوصا تلك الكليات التي تضيف الى أسماء ابنائهم ألقابا ذات بريق اجتماعي ، وحين كتب عالم الاجتماع الراحل د. علي الوردي لمحات من تاريخ العراق تحدث باسهاب عن دور البداوة في افساد كل ما هو حديث ويتطلب أنماطا مغايرة من التفكير ، فتحدث عن التاجر وسائق التاكسي وما ينقصهما من مرونة تليق بأنشطة من هذا الطراز.
واحيانا نرى طغاة صغارا في مجالات عادية من حياتنا اليومية فنحمد الله على أنهم بقوا في مواقعهم ، لأنهم لو حكموا لتفوقوا على الامبراطور كاليجولا وقراقوش،
الديمقراطية في معناها الشامل مناخ فكري ومزاج اجتماعي يرسخ بمرور الوقت تقاليد واعرافا لها قوة القانون ، لهذا فهي ثقافة أولا ، وتربويات تختلط بحليب الأمهات ، لكن مجتمعات تسيرها مواعظ وأمثال وثقافة شفوية مهموسة اضافة الى فقه النميمة لا يمكن أن تفرز أنماطا من التفكير والسلوك لها صلة من قريب أو بعيد بالديمقراطية ، وبالمناسبة فان الطاغية أو الديكتاتور لم يسقط بمظلة من السماء ، انه ربيب ثقافة سياسية واجتماعية ومن افراز سياق حضاري محدد ، لهذا يقال بأن المجتمعات تنتج ما تستحقه من المجرمين والقضاة ، ومن الاشرار والاخيار والحمقى والمبدعين،
وكان من سوء حظ العربي انه قفز من منظومة اجتماعية لا تعترف بقيمة الفرد الى الحزب والنقابة والتشكيلات السياسية الحديثة ، وبقيت هناك حلقة مفقودة هي عدم تبلور شخصية الفرد والاعتراف بحقه في الاختلاف ، فالمطلوب هو قطيع متجانس من الداخل حتى لو تغيرت الالوان والملامح ، والناس في مجتمعات كهذه ليسوا بحاجة الى اسماء فالأرقام تكفي،،