تحت الضوء وخلف الزجاج

كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة والنصف مساءً عندما بَلغتُ إشارة المحطة هابطاً من نزلة نادي السباق ، الازدحام المروري شديد وغير مألوف في هذا الوقت لولا "زحمة رمضان" و"عجقة العيد" ، تطلب الأمر انتظار الضوء الأخضر ثلاث مرات ، قبل أن أتمكن من اجتياز هذا المفترق الصعب (؟،). لم أشعر بالانزعاج والملل لأنني كنت أتابع "طوشة" على مقربة من إشارة المرور ، لم أعرف أسبابها ولا هوية الأطراف المنخرطة فيها ، كما أنني لم أعرف متى بدأت ولا كيف انتهت.
شدّ انتباهي مشهد شرطي يقتاد شاباً في العشرينيات من عمره ، بدأ الشاب ممتلئاً وقوي البنية بخلاف الشرطي ، لكنه كان مسالماً ومطواعاً حتى أنني اعتقدت أنهما ذاهبان إلى "الكشك الأمني الزجاجي" لإتمام بعض الأعمال المكتبية من نوع تسجيل شكوى أو كتابة محضر ، فالشرطي لم يحتج لأي جهد لدفع الرجل إلى داخل "الكشك" المذكور.
فجأة تغير المشهد برمته ، فما أن دلف الرجلان إلى داخل "الفاترينا الزجاجية" ، حتى دفع الشرطي الرجل بقوة فأوقعه على أحد المقاعد ، لينهال عليه ضرباً بـ"الشلاليت" ، يقف الشاب فيدفعه الشرطي مجدداً ، ويواصل ضربه بـ"الكفوف والشلاليت" ، يرتد الشاب على المقعد ثم يقف ، فيما عملية "التلطيش" ما تزال مستمرة.
والحقيقة أن المشهد ما كان ليبدو مضخماً ودرامياً على هذا النحو لولا أنه جرى في "الكشك ـ الفاترينا" ، خلف الزجاج وتحت الضوء الساطع ، لكأننا كنّا نشاهد مسرحية كريهة من النوع المؤذي الذي يحظر على من هم دون الثامنة عشرة مشاهدتها.
لم أكن لوحدي في السيارة ، فقد كانت زوجتي إلى جانبي وفي المقعد الخلفي جلست ابنتي - دون الثامنة عشرة - ولم أستطع أن أغلق التلفزيون أو أن أسدل الستارة عن المسرحية البشعة التي تجري أمامنا ، لا شك أن دائرة العلاقات العامة والإعلام في الأمن العام ، تضررت كثيرا بحادث الأمس ، وهي ستكون بحاجة لبذل جهود مضاعفة لتحسين صورة الجهاز ، أقله لمن قادتهم حظوظهم وأقدامهم إلى تلك المنطقة في ذلك الوقت.
وكما قلت ، فأنا لا أعرف "الشاب المضروب" ، ولست على يقين مما إذا كان "سوابق" أو "آدمي وابن أوادم" ، لكن ما أنا متأكد منه تماماً أنه لن ينسى ليلة البارحة حيث ضُرب بالأقدام والأيدي على مرأى من عشرات المواطنين ، والأرجح أن منسوب الكراهية والحقد على المؤسسة والجهاز والشرطي المذكور ، قد ارتفع عنده ليبلغ معدلات غير مسبوقة ، خصوصا إن كان "آدمي وابن أوادم" أوقعته الظروف في "خناقة" مروية أو في شجار طارئ من النوع الذي يمكن أن يحصل لأي مواطن.
فكرة "الضرب" فكرة مقيتة ومُدانة ، فيها امتهان لإنسانية الإنسان وكرامته ، وهي سبب رئيس في تفجير طاقة الغضب والكراهية لديه ، لا يمكن تبريرها إلا في حالات الضرورة القصوى ، أي عندما يكون "المستهدف" عنيفاً ومقاوماً لأوامر الاعتقال والتوقيف ، ومهما بلغ الشطط بالخارجين عن القانون فإن لهم حقوقاً لا يجب الافتئات عليها ، خصوصا حين يقعون في قبضة الشرطة من دون مقاومة تذكر كما بدأ واضحاً للعيان لنا بالأمس ، ويجب العمل بكل السبل المتاحة لتعميم ثقافة حقوق الانسان في أوساط الأجهزة الشُرطية ، فلا يعني وقوع مواطن في "ورطة" أو "طوشة" أو "حادث مروري" أنه بات "كيس ملاكمة" تتقاذفه القبضات والأقدام ، والأمر ينبغي أن يصبح سلوكاً عاماً يطال جميع المواطنين من دون استثناء .
( الدستور )