وَأدُ المواهب!

الوأد ثقافة أولا ، وليس مجرد طقس جاهلي وثني ، وقد تنتهي أنماطه الاولى لكن الهاجع منه في اللاوعي الجمعي يبحث عن تجليات اخرى ، قد لا تكون مشهودة بالعين المجردة ، ومن كانوا يئدون بناتهم خشية على العرض ويئدون أبناءهم خشية من الفقر لهم أحفاد وأحفاد أحفاد يئدون المواهب وكل ما هو مختلف أو مغاير للقطيع ، فالشاة السوداء الآن لا تطرد بل تذبح للافادة من احشائها وجلدها ، والبعير الذي يفرد ليس لأنه أجرب بل لأنه افتضح الجرب الوبائي في القافلة والقطيع،
وأد الموهوبين يبدأ بالمطرقة التي تستهدف كل ما هو ناتىء عن السطح ، فالمطلوب تابوت بسعة قارة ، لا تظهر المسامير فيه ، لهذا فان من استطاعوا عبور الحاجز الفولاذي ومغناطيسيته الاجتماعية هم القلة أو الاستثناء الذي يكرس القاعدة ، لأن من ضاعوا أو ضيعوا من الفتيان اضعاف من نجوا ، والمفارقة هي ان سدنة ثقافة الوأد قدر تعلقها بالمواهب وامتيازات الذكاء سرعان ما يتلقفون من نجوا بعد أن قطعوا المحيطات والحقيقة أنهم لو استفردوا بهؤلاء قبل النجاة لنكلوا بهم شأن زملائهم من لم يحالفهم حظ الفرار والهجرة ، ويخطىء الناس اذا تصوروا بأن الطفل القادر على المحاكاة بمهارة هو موهوب بالضرورة ، فثمة تجارب أجريت على اطفال تفوقوا على القردة في المحاكاة حتى سن الخامسة ، لكنهم توقفوا بعد ذلك عن النمو ، ان الموهبة تبدأ بما هو مغاير وبما لا يسترضي السائد ، انها جمل معترضة في الكتاب الاجتماعي. لهذا يصبح الموهوب منذ بواكيره عبئا على ذويه ومعلميه وزملائه أيضا ، لأن ثقافة التنميط والامتثالية والتقريد تفرض على الناس التشابه واخفاء ما يشعرون به من اختلاف كما لو انه عورة..
ان أول ما يسمعه الطفل من أهله اذا اخطأ هو ما الذي سوف يقوله الناس والجيران ، ورغم مرور عقود طويلة على اختراع الكهرباء واضاءة المدن وحتى القرى بعناقيد المصابيح والنيونات لا تزال التقاويم تعود الى ما قبل الكهرباء ، فالساعة الثامنة مساء هي كما يرى البعض آخر الليل ، لهذا لا يعرف هؤلاء بأن نصف الحياة في المدن المعاصرة هي مناوبات ليلية لأطباء وطبيبات وعمال وعاملات ومثقفين ومثقفات ، ان ذهنية ما قبل الكهرباء هي توأم ذهنية ما قبل الدولة والمؤسسة ، بل ما قبل المدنية بمجمل منجزاتها ، وليس لدينا حاسوب عبقري يحصي لنا عدد المواهب التي تضيع كالأنهار التي لا تجد لها مصبا ، لكننا نستطيع ان نتخيل ارقاما فلكية ، فالطفل الذي يمسح زجاج السيارات عند اشارات المرور أو يبيع العلكة أو يفتش عما يسد رمقه في حاوية.. قد يكون موهبة كبرى وئدت فور ولادتها ، فلا هو يدري ولا ذووه كم خسروا عندما ظنوا ان المحارة فارغة ورموها رغم أنها تخفي في داخلها لؤلؤة نادرة..
ان لثقافة الوأد تجليات عديدة ليست بالضرورة كتلك التي عرفها العربي في جاهليته ، ومن تم وأدهم رجالا ونساء في عالمنا العربي أضعاف من نجوا....،،
( الدستور )