ما تقايض عليه

قبل ايام كتبنا في هذه الزاوية بعنوان : ياخوت بعد اسكندر . كانت الانباء تربط زيارة وزير الدفاع الاسرائيلي الى موسكو بالسعي الى وقف صفقة بيع اسلحة صواريخ ارض - بحر تحمل اسم ياخوت الى سوريا . مما كان يعيد الى الذهن تدخل الدولة العبرية لدى موسكو قبل سنوات لوقف صفقة بيع صواريخ ارض - جو تحمل اسم اسكندر الى دمشق .
وكما نجحت تل ابيب في المرة الاولى ، توقعنا نجاحها في المرة الثانية ، وهذا ما حصل . ببساطة لان لدى اسرائيل ما تقايض عليه .
الحجة الاسرائيلية المعلنة هي الاخلال بالتوازن العسكري ، وامكانية تسريب هذه الصواريخ الى حزب الله . والبديل الذي قدمه ايهودا باراك الى نظيره الروسي هو صفقات اسلحة اسرائيلية الى روسيا . لتقول وسائل الاعلام ان ذلك يلبي رغبة وزير الدفاع الروسي في تسليح الجيش عبر شراء الاسلحة . وفي ذلك تشكل اسرائيل مصدرا مهما لما يراد شراؤه .
غير ان التدقيق في هذه الحجة يظهرها باهتة ، اذ ان اية عملية مقايضة لا تتم بتقديم شراء مقابل بيع ( بمعنى انك لا تستطيع ان تقول لبائع لا تبع لانني انا سابيعك ، بل المنطقي ان تقول له لا تبع لهذه الجهة لانني انا ساشتري منك )
واذا كان الملمح الخاص لوزير الدفاع الروسي الحالي انه رجل غير عسكري ، رجل اعمال ناجح ، فان هذه المعادلة تصبح اقوى ، علما بان وزير الدفاع ليس هو من يقرر امرا ستراتيجيا كهذا .
في مسالة التصويت على العقوبات الاخيرة ضد ايران ، كسبت واشنطن الصوت الروسي في مجلس الامن مقابل رفع الحظر على بعض شركات انتاج وبيع الاسلحة الروسية ، وكان هذا منطقيا . كما انه اثبت مرة اخرى ، ان بلاد الدب الروسي لم تعد تؤمن ابدا باتخاذ القرارات بناءً على مواقف مبدئية ، بل بناءً على مقايضات بحتة . واذا كان من المؤكد ان كل العلاقات بين الدول هي علاقات مصالح بالدرجة الاولى ، فان روسيا اليوم تنظر الى مصالحها بناءً على سلم اولويات لا يقع في رأسه انشاء كتل دولية وتحالفات ضد هذا الطرف او ذاك ، بل يقع في هذه المرتبة الاولى تقوية الاقتصاد الروسي من الداخل ، ثم تقوية الامن الروسي من الداخل ، ثم تثبيت نفوذ روسيا في محيطها الحيوي المباشر اولا .
في هذه المحاور الثلاثة ، تستطيع اسرائيل ان تطرح على الطاولة اوراقا كثيرة ، كلها غالية الثمن : فتسهيل بيع الانتاج العسكري الروسي في الخارج مرتبط باللوبي الصناعي العسكري المتماهي مع اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة اولا وفي اوروبا ثانيا ، كما انه متوقف على رغبة الدول الغنية في عقد صفقات كبيرة مع مصانع الاسلحة الروسية .
كذلك فان تدعيم هذا الاقتصاد يمر اولا عبر الغاز وتسويقه ، ومن ثم عبر المنتجات الاخرى الباحثة عن استثمارات وعن اسواق .
اما تدعيم الامن الروسي الداخلي ، فيعني اولا محاربة الارهاب ، الذي لا يترك وقتا يمر دون ان يهز البلاد بشكل كارثي . ويهز معه دعائم الامن والاقتصاد والسياسة . ادارة بوتين - ميدفيديف تعرف جيدا ان واجهة هذا الارهاب اسلامية ، وتمويله كذلك ، وتسويقه الاعلامي الدولي كذلك ، لكنها تعرف ايضا - وبخصوصيتها الاستخباراتية - ان لاسرائيل دورا في استغلال هؤلاء الاسلاميين المتشددين وتوجيههم بطريقة غير مباشرة وخبيثة . وبما انها لا تستطيع مجابهة الدعم العاطفي الاول فهي تحاول - على الاقل - الالتفاف على المحرك الثاني .
ولعل مثال حوادث جورجيا قبل سنتين ، يقدم لنا ابرز برهان على ذلك ، كما ينقلنا الى المحور الرابع وهو الحفاظ على النفوذ الاقليمي لروسيا . ففي جورجيا ثبت دور الموساد المركزي في تفعيل المواجهة المسلحة مع موسكو ، كما ثبت ان مراكز السي اي ايه والموساد كانت تقيم هناك مخيمات للمتطوعين الاسلاميين الاسيويين والشيشان ، لتدريبهم وتوجيههم في عمليات ضد موسكو . ولا يغير في النتائج شيئا ما اذا كان هؤلاء المساكين يعرفون حقيقة من يدربهم او يوجههم او لا يعرف ، والفرضية الثانية هي الاقرب لان المتطوع لا يكون على علاقة الا مع مسؤوله المباشر ، في حين يقف اللاعبون الحقيقيون وراء مسرح الدمى .
اوراق كثيرة تعرضها اسرائيل على موسكو في هذه المحاور الثلاثة ، ويبرز السؤال : اوليس لدى العرب اوراق مهمة جدا في هذه المحاور نفسها؟
لا شك ان نعم وبقوة ، لكنها اوراق مدفونة في علبة حديدية في درج مفتاحه ليس بيد صاحبها .
الدستور