عالم بلا صحف

لمن اعتاد أن يقرأ الصحف صبيحة كل يوم ، وأن يبدأ نهاراته بفنجان قهوة مع "جولة في عوالم الصحافة" المحلية واللندنية واللبنانية والإسرائيلية ، تبدو عطلة اليومين الفائتين ، طويلة للغاية ، حتى أن المرء يشعر بحالة "انعدام الوزن" مَثَلُه مَثَلُ الذين داسوا سطح القمر لأول مرة.
ولمن اعتاد أن يكتب يومياً طوال السنوات الخمس عشرة الأخيرة من عمره ، ومن دون انقطاع ليوم واحد ، فإن التوقف عن الكتابة في أيام العيد ، يصبح "عيداً آخر" بحق ، خصوصاً حين تطغى الكآبة على الكتابة.
لكننا نحن المسكونين بهاجس القراءة والكتابة ، لا نعدم وسيلة لمواصلة الاتصال مع العالم الخارجي ، وشكراً لأجهزة "الموبايل" و"اللاب توب" و"الآي بود" التي باتت توفر لنا قنوات اتصال مع أربع أرجاء العالم ، ناهيك عن ثورة الفضاء والفضائيات ، التي لا تعرف "نهايات الأسبوع" ولا "العطل الرسمية والأعياد".
لا أدري إن كان نمط حياتنا هذا صحيحاً وصحياً أم لا ، لكنني أقلق تماماً حين أستيقظ في ساعات الفجر مذعوراً من حلم راودني ، أبطاله رؤساء دول وقادةأحزاب ونقابات ، ومؤخراً مؤسسات مجتمع مدني ، إنه كابوس حقاً أن تترك هؤلاء خلفك حين تدلف إلى غرفة نومك ، فيلاحقونك في أحلامك ومناماتك ، ما يدفعك للترحم على ليالي زمان وأحلام زمان ، حين كانت "غاية المنى" أن ترى ابنة الجيران ذات منام.
لكنني مع ذلك أجد "العزاء والسلوان" في ما يفعله "اللاوعي" بهؤلاء ، فما من أحد منهم زارني ذات منام ، في هيئة زعيم مهاب الجانب ، "كارزيمي"وتاريخي ، دائما أراهم لا حول لهم ولا قوة ، مجردين من أطقم المرافقين (والمرافقات) وعشرات السيارات السوداء التي تتشكل منها مواكبهم...قبل يومين رأيت أحدهم - واعتذر عن عدم ذكر اسمه - جاء شخصياً ليسلمني دعوة لإلقاء محاضرة عن "العنف ضد النساء" ، يخيّل إلي أنه جاء ممثلا عن جمعية تحمل هذا الاسم ، استيقظت وأنا في ذروة "المشاحنة" مع الرجل ـ الزعيم حول قيمة المكافأة التي سأحصل عليها نظير البحث (؟،) ، انقطع "المنام" قبل أن أعرف نتيجة "المفاصلة" ، بيد أنني سُعًدتُ حين صَحوت إذ وجدتني صاحب اليد العليا في المجادلة .
نعود إلى عوالم العيد الخالية من الصحافة ، تخلو الشوارع من باعة الصحف الذي يستقبلونك في الصباحات الباكرة عند المفترقات والإشارات بأكداس من الصحف المختلفة ، هذا المشهد كان يبهجني في سالف الأزمان ، بيد أنه لم يعد كذلك هذه الأيام ، سيما وأن بعض هؤلاء قد أخذ يتحوّل إلى مهنة "التسوّل" تحت ستار بيع الصحف ، ففقدت مهنته الأصلية فرادتها ونكهتها الخاصة ، هؤلاء اختفوا في العيد ، وبعضهم فقط ، مأسوفّ على غيابه.
تمر بالمحلات التي اعتادت بيع الجرائد والمجلات ، تجد صحفنا اليومية وقد بهتت جراء الشمس الساطعة التي تعرضت لها لأيام ثلاثة متتالية من دون تبديل أو تغيير ، تدرك أنك أمام صحف قديمة تليق بصالونات الحلاقين وقاعات انتظار الأطباء "البخلاء" الذين برغم مداخيلهم العالية ، أخذوا ينافسون الحلاقين على اقتناء المجلات القديمة.
تعود إلى الانترنت ، فتحزن حين ترى مقالة يوم الجمعة ما زالت في مكانها ، وأن عدد زوارك ثابت عند آخر يوم عمل ، وأن "التحديث" على الموقع الذي وعدت به الصحيفة لا يتعدى شريط ضيق من الأخبار التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، تستعجل رحيل العطلة ، وتتمنى العودة لـ"الدوام" مجدداً ، علّ عجلة العالم تتحرك من جديد.
( الدستور )