وجوه أمريكا العشرة!

عندما كتب الصديق غالب هلسا روايته "وجوه بغداد الثلاثة" والتي عشنا معا معظم احداثها ، سألته عن وجوه اخرى للمدينة ، فهي قد تصل الى العشرة وجوه ، وتذكرنا معا "رباعية الاسكندرية" لداريل ، حيث كان لمدينة الاسكندرية فيها اربعة وجوه ، لكن غالب بوعيه السياسي وتجربته المديدة اختزل تلك الوجوه الى ثلاثة رغم ان الاخرين لم يكونوا يرون لبغداد اكثر من وجه واحد يراوح بين السياسي والسياحي ، ولو كان غالب الان حيا لضرب الوجوه الثلاثة بعشرة اضعافها بعد ان تعددت بغداد وتشظت وتشرذمت واصبحت مهددة بالتذرر.
خطرت ببالي تجربة غالب وانا اشاهد سيدة امريكية ليست من اصل عربي او اسلامي بل انجلوساكسونية ، وهي ترفض ما عرضه عليها القس جونز لطبع شعارات مضادة للاسلام والمسلمين على قمصان رياضية ، ولم تكتف السيدة برفض العرض العنصري بل قررت ان تطبع على القمصان عبارات تبشر بتعايش البشر والاديان وتندد بموقف جونز،.
هذا وجه اخر لامريكا ، وثمة وجه ثالث نحفظه كعرب عن ظهر قلب ، لتلك الصبية التي نابت عنا جميعا في الدفاع عن بيت فلسطيني اقتربت منه الجرافة ، وعندما حاولت ان تصد غزاة التدمير والنسف والتشريد بجسدها النحيل طحنت الجرافة الاسرائيلية عظامها انها راشيل كوري.. وجه اخر لامريكا.. والمفكر الذي منعته اسرائيل من دخول فلسطين ليرى بام العين ما رأته من قبل فيلسيا لانجر ، وهو من اصل يهودي وجه اخر لامريكا. انه نعوم تشومسكي الذي يقول ما لا نقوى كعرب على قوله ، وتعدد وجوه البلدان والمدن ليس طارئا ، فامريكا والت ويتمان الشاعر الذي بشر بالحرية والديمقراطية والسلام ليست امريكا بوش او رامسفيلد او ماكنمارا والجنرال مورلاند.. كما ان بريطانيا شكسبير وتشوسر وبرتراند رسل وهارولد نبتر الذي خرج من المستشفى ليتظاهر ضد احتلال العراق وهو مصاب بالسرطان ليست بريطانيا اللورد كرومر وتشرتشل وبلير.
ان حربا اخرى تدور الان داخل امريكا وداخل الغرب كله بين التنوير والاظلام وبين ناشطين يذودون عن حقوق الضحايا وبين جنرالات يسيل لعابهم على الغنائم في عدة مناطق من عالمنا ، لهذا علينا ان نتقن ادارة الازمات عندما تتعلق بالثقافة والمعرفة والعقائد ، ففي عالمنا العربي ثمة امريكيون اكثر من رامسفيلد وماكنمارا ، دافعوا عن اخطاء البنتاغون والبيت الابيض حتى سخر منهم الامريكيون انفسهم.
ان كل تعميم هو فرار من التحديد وهو ايضا تعويم للدماء والمواقف ، وثمة وجوه اخرى لنيويورك ولندن وباريس تستحق منا ان نتعرف عليها ونتهجى ملامحها في حمى هذا المناخ المحموم.
وما من بلد او مدينة في العالم ذات وجه واحد الا اذا تحولت الى مقبرة بعد زلزال،.
( الدستور )