المشهد من الداخل

إلى جانب كوني مرشحا للانتخابات، فإن الصحافي والمحلل والمراقب السياسي في داخلي كان حاضرا كطرف آخر يشاهد ويتمعن ويحلل المشهد من الداخل.
الوصف الشائع للانتخابات هو طغيان الطابع العشائري والخدماتي، وهذا صحيح نسبيا، لكن الحقيقة أكثر تعقيدا، ولا تحسم بحكم عام من هذا النوع، هذا على الأقل بالنسبة للدائرة التي أعمل فيها، وهي ليست من نسيج مختلف عن عموم المجتمع على ما في كل بيئة من خصوصيات.
الأغلبية الساحقة من العشائر والعائلات لم يترشح منها أحد، وهؤلاء لا يجتمعون أبدا ليقرروا لمن ينحازون. هذا لم يعد قائما، والقول الدارج هو أن الأخ لا "يمون" على أخيه والأب لا يمون على ابنه، وأي فرد منهم يتحزر معك عن ميول فلان أو فلان من نفس عشيرته، وإذا كان أحدهم يتعاطف معك فهو أبدا لا يدّعي عن أحد آخر من أقاربه، وبالحدّ الأقصى يمكن أن يقدمك لمن هو على صلة قريبة معهم والباقي عندك أن تقنعهم بنفسك.
إذا كنتَ أسديتَ خدمة أو معروفا لشخص فهذا حتما سبب قوي ليمنحك صوته، لكن كم نسبة هؤلاء قياسا لمجموع الناخبين؟ ويمكن أن تجد حزبيين وسياسيين مخضرمين كانوا صوتوا لشخص معين لأنه أسرهم بمعروف أو خدمة مهمّة، لكن كم من الناس أمكن تلبية طلباتهم؟! وهناك نوع من الالتزام الأدبي أكان بسبب القرابة أو النسب أو الجيرة أو الصداقة قد يتضارب أو يتداخل مع الخدمة، لكن شخصية المرشح نفسها تلعب دورا في تحجيم أو تعظيم هذه الاعتبارات.
يتبع الناس مصالحهم، وهذه هي خلفية طغيان مفهوم نائب الواسطة والمحسوبية، لكن ثمّة مبالغة في هذا المفهوم؛ فالمصلحة لا تعني بالضرورة خدمة مباشرة متوقعة، يكفي التوقع بأن المرشح المعني سيكون قريبا منهم وصادقا معهم أو مستعدا أو قادرا إذا احتاجوه، لكن هذا الانطباع يتصل بقوّة بشخصية المرشح.
في البلدات والقرى يعرف الناس بعضهم، وهناك تاريخ من العلاقات الإيجابية أو السلبية تتولد عنها أحكام مسبقة حول الانحياز من عشائر أو جماعات لعشائر أو جماعات أخرى، ثم يعترف الناس في نهاية المطاف بأن هذا ليس قائما في الواقع العملي، فالأفراد والأسر يتصرفون خارج هذه الصورة النمطية المسبقة.
يوجد بالعادة ثلاث أو أربع عشائر ينزل منها مرشحون، وتبقى عشرات العشائر والعائلات الكبيرة والصغيرة الأخرى، فماذا عنها؟ الناس الآن لا تتصرف على طريقة "ما أنا إلا من غزية إن غزت.."، وليس هناك حالة واحدة تسمع فيها أن العشيرة الفلانية اجتمعت وقررت دعم مرشح من عشيرة أخرى.
ويشاع عن مشاريع مرشحين من عشيرة ما فتسمع أقارب لهم يصدرون أحكاما سلبية عليهم من حيث أهليتهم وتجربتهم وخلفيتهم، وصلات القربى والجيرة والعلاقات تمنع الناس من التصريح بانحياز علني، لكن رأيا عاما خفيا يتشكل بصورة ما، ويسود في أوساط "الأغلبية الصامتة" حول هذا المرشح أو ذاك يلعب دورا حاسما في ترجيحه.
هذا "الرأي العام" لا يتشكل نتيجة أي عامل منفرد، بل يكاد يشبه تمازجا تدريجيا لعدد من ألوان الطيف، يعطي في النهاية صورة زاهية أو قاتمة تصبح أقوى من أي عنصر آخر منفرد. ومنذ البداية كان لدي حدس بالرهان على هذا الرأي العام.