فاوًض ثم فاوًض .. ثم هاجًر

قد يلتفت المفاوض الفلسطيني حوله ويردد مع الشاعر "ألقاه في اليم مكتوفا وقال له اياك.. اياك أن تبتل بالماء".
لكن المشهد أكثر تعقيدا من هذا لأن الانسان احيانا يغرق ولا يبتل فقط اذا لم يقدر عمق الماء الذي يغطس فيه ، وما قالته هيلاري كلينتون عن يأسها من التوصل الى أية نتائج في هذه المفاوضات يجعل تفاؤلها أقل بكثير من الواحد بالمئة الذي دفع محمود عباس الى الذهاب الى المفاوضات ، وحين يبدأ نتنياهو خطابه التفاوضي بشرط يتعذر قبوله الا في حالة الانتحار السياسي وهو اعتراف الفلسطينيين بيهودية اسرائيل فان كل ما سوف يعقب ذلك هو مراوحة من طراز عقيم.
فالمطلوب من هذا النمط من التفاوض غير المتكافىء هو على التوالي..
قبول الطرف المعتدى عليه بالامر الواقع والتأقلم معه ثم اسالة لعاب الطرف المعتدي على المزيد من التراب والماء والهواء ، فالهواء ايضا لا ينجو من الاحتلال اذا كانت كماشته تطبق على سماء فلسطين وأخيرا افراغ ديناميات ومفاعيل التفاوض من مضامينها ووصول الطرف الأضعف والأعزل بقرار منه الى ان يفاوض ثم يفاوض ثم يهاجر ، فالاساس الذي يقوم عليه مفهوم الدولة اليهودية هو اقصاء الفلسطينيين عن ارضهم بحيث تكون الدولة التي يسعى نتنياهو الى تحقيقها نقية من الشوائب غير اليهودية ، وبالتالي نموذجا معاصرا للدولة العرقية العنصرية،.
نعرف ولا حاجة بنا لمن يذكرنا بأن كل حركات المقاومة والتحرر في التاريخ فاوضت.. لكن ما نريد تذكير الآخرين به في زمن الزهايمر السياسي الذي انتشر وبائيا هو ان اليد التي كانت تفاوض كانت تتكىء على البندقية ، بحيث تكون الخيارات كلها متاحة ، فلا يستطيع الطرف المسلح الاستفراد واحتكار كل شيء لصالحه.
من ألقي في اليم ثم قيل له اياك أن تبتل بالدم وليس بالماء هذه المرة هو شعب صدق ذات عروبة ، ان قضيته بالفعل مركزية ، وان ثلاثين انقلابا عسكريا وقعت من اجل الاسراع في تحرير بلاده.. وهو الآن يدفع ثمن ذلك التصديق لأنه رأى فقط ما اراد أن يراه وسمع ما كان يود سماعه.
ولم يحدث في الطبيعة أو التاريخ ان طولب الغازي بالاعتذار عما اقترف بحيث يعيد الغنائم ومثل هذا الرهان سيظل على حصان مشلول لا يصلح حتى لجر عربة كاز أو بطيخ.
فاوًض ثم فاوًض.. ثم هاجًر.
هذا هو التالوث الصهيوني المقدس ، لأن من يذهب الى المفاوضات بشرطين هما تهويد الدولة ومواصلة الاستيطان هو في الحقيقة يدق طبول الحرب ، أما ثالثة الاثافي فهي ترك القدس في عراء تاريخي وحالة من اليتم القومي والديني ، بحيث تتحول بمرور الوقت الى فريسة سهلة الهضم ، رغم اعتقادنا بأن آخر حجر في سورها أو في أسس مساجدها وبيوتها سيكون كتلك العظمة السامة التي انتقمت للشنفرى بألف رجل.
ان التفاوض ليس طريقا معبدا نحو التهجير ، انه حرب بوسائل اخرى ، لكن لمن يمتلك هذه الوسائل .
( الدستور )