غابة المجالس والهيئات والمؤسسات

الآن نبدأ رحلة معاكسة مع الهيئات المستقلة بعد أن كانت موجة (أو موضة) إنشاء المجالس والهيئات والمؤسسات المستقلّة عن الوزارات قد تحولت إلى عبء على الدولة والموازنة والأداء.
الكثير من الوقت والجهد كان يبذل من أجل فكرة تعكس مزاجا سائدا، أكثر مما تعكس ضرورة عملية، ومن دون أن نلمس على الأرض معنى حقيقيا للتنقل بين صيغ مختلفة، مثل التحول من وزارة إلى هيئة أو مجلس أعلى أو مؤسسة.
وفكرة الاستقلالية، التي طغت في مرحلة معينة، ثبت أنها شيء على الورق فقط، بل إن حاجة فعلية الى الاستقلالية لم تثبت، والنتيجة الوحيدة هي المزيد من الإنفاق الإداري والخلل في هيكل التصنيفات والرواتب، بحيث وصلنا إلى وضع غير مقبول من التشوهات في الرواتب والامتيازات. غابة من التشوهات تفلت على الرقابة والإحاطة، ويمكن لرئيس وزراء أن يقضي فترة مسؤوليته ويمضي من دون أن يدري عنها شيئا.
أحيانا تبدو الأمور على طريقة مصلحة عموم الزير، فإذا بدأنا مشروعا معينا ثم كررنا الأمر في مكان آخر سرعان ما تنشأ فكرة عمل هيئة عليا أو مؤسسة مختصّة، مثل مؤسسة المدن الصناعية، ثم مؤسسة المناطق الحرة، ثم هيئة المناطق التنموية، وسيكون لكل واحدة قانون أو نظام وهيكل إداري ومديرون وموازنة وجهاز وظيفي. والفكرة القديمة بتخفيف جهاز الدولة وترشيقه بتحويل الجهات المشرفة إلى هيئات مستقلة تعمل بفعالية بعيدا عن البيروقراطية الحكومية، غالبا ما انتهت إلى نتيجة معاكسة هي التوسع البيروقراطي الفائض عن الحاجة.
من جهتي، عايشت شخصيا موضوع "المجلس الأعلى للإعلام" الذي ولد بالأصل كبديل لوزارة الإعلام، ثم انتهى جسما يبحث عن دور، وقد نشأ أيضا مجلس أعلى مرتبط مباشرة برئاسة الوزراء لكل واحدة من المؤسسات الإعلامية الرسمية، لتأكيد وضعها كهيئات مستقلة، فاكتشفت الرئاسة أنها أصبحت تتحمل عبئا بيروقراطيا غير مبرر، من هذه الاستقلالية الشكلية التي فرخت هذا العدد من المجالس الفائضة عن الحاجة.
وفي قطاع الشباب، من الطريف أننا عدنا من باب المسميات على الأقل إلى نقطة البداية، أي الى "مؤسسة رعاية الشباب" التي كانت تحولت الى وزارة الشباب ثم "المجلس الأعلى للشباب"، ولا يستطيع أحد أن يقول بالضبط ما الذي تغير عبر هذه التغييرات، ويبدو لي أن التسمية الجديدة لا تحمل تغييرا سوى دمج مؤسستين أخريين معها، هما الصندوق الوطني لدعم الحركة الشبابية ومركز إعداد القيادات الشبابية، أمّا هيئة "شباب كلنا الأردن" فقد أعيد تحديد تموضعها لهذه الفترة على الأقل كذراع لصندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، بعد أن حارت لبعض الوقت في تحديد وضعها القانوني.
وزارة تطوير القطاع العام أنجزت التصور لعمليات الدمج وإعادة الهيكلة، وأقرّ مجلس الوزراء هذه الخطّة التي ستنفذ على مراحل، ولا أستطيع أن أتحدث عن تجربة العديد من المؤسسات والهيئات والمجالس التي تربو على الستين، ويمكن الاستغناء عن نصفها أو إلحاقها بوزارات.
سنرى في التفاصيل والمحتوى ما هو التصور المحدد لكل قطاع، والمهم أن التفريخ المتواصل الذي أثبت عدم جدواه سيتوقف، وسنبدأ رحلة معاكسة ليس باتجاه التجميع فقط، بل أيضا الترشيق.
الغد