وصفات في سلال المهملات

تخيلوا لو أن طبيبا يكتب وصفات للمرضى ولا يقرأها غير زملائه الأصحاء أو بعضهم على الأقل؟ هذا ما نحس به عندما نتأمل دراسات وأبحاثا كتبها علماء اجتماع ومفكرون من العرب عن مجتمعاتهم وأسباب تخلفها ، ان المرسل اليه في هذه المعادلة العرجاء غائب ، وينوب عنه آخرون ليسوا بحاجة لمعرفة أحواله ، لأنهم يعرفونها عن كثب وتحت المجهر..
كم هو عدد العرب الذين قرأوا ما كتبه صادق العظم وهشام شرابي وحامد عمار وسيد ياسين وعلي زيعور وغيرهم عن الأحوال النفسية والاجماعية للانسان العربي وما تعانيه هذه الذات الجريحة من صراعات؟
أذكر ذات يوم أن سيدة عربية لم تتردد على الندوات والمحاضرات بشكل دائم سألت هشام شرابي بعد محاضرة ألقاها عن موقفه من المرأة.. في تلك اللحظة رأيت دمعة عالقة بعين الرجل ، الذي حاول أن يكون لطيفا في الاجابة فقال للسيدة أنه يعتقد بأن ما كتبه عن المرأة الأبوية في الاسرة العربية اضافة الى مذكراته في الجمر والرماد كان يستحق القراءة.. وكان من الواضح ان تلك السيدة لم تقرأ لشرابي كلمة واحدة قبل هذه المحاضرة.. والافراط في تحميل المثقفين العرب المسؤولية عن هذا التخلف ، واحجامهم عن مجابهة أسبابه يستحق وقفة مراجعة لانصاف هؤلاء ، ومنهم من قضى عمره وهو يبحث ويكتب لكن معظم الناس لم يسمعوا به الا بعد موته ، ولا أعرف كم هو بالضبط عدد العرب الذين علموا حتى الآن برحيل مفكر جزائري هو محمد أركون ، وكم هو عدد من قرأوا له مقالة واحدة.. كي لا نقول كتابا واحدا،
ان المثقفين والنخب بصورة أعم في كل المجتمعات ليسوا طائفة متجانسة ، فهم يعبرون عن مصالح وطبقات ومفاهيم ، ومنهم من يقبض على الجمر بلسانه قبل اصابعه حتى الموت ، كما ان منهم من يبيع تاريخ أجداده ومستقبل أحفاده بشقة أو سيارة.
والسؤال المزمن هو لماذا يعزف المريض العربي عن قراءة الوصفات التي تشخص شقاءه سواء كان سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا ، قد تكون فلسفة النعامة الخرقاء والمنتحرة وهي آخر من يعلم هي السبب ، وقد يكون ما يسمى التفكير الرغائبي الذي يدفع الانسان الى رؤية ما يريد فقط سببا آخر.. فالاسباب تتعدد لكن الجهل واحد،
بعد هزيمة حزيران عام 1967 صدرت عدة كتب في نقد الواقع العربي لم يوزع منها الا عدد قليل من النسخ في نطاق ديمغرافي يتجاوز المئة مليون في ذلك الوقت ، وما يصدر الآن من دراسات وأبحاث متخصصة في شجون التخلف والشقاء بمختلف أنماطه ومحاصيله لا يقرأه سوى بضعة مئات وأحيانا يصل الرقم الى ألفين أو ثلاثة لأسباب دعائية ، الناس الذين ينفقون المليارات على الثرثرة بالهواتف النقالة أو السيارات الاستعراضية أو مساحيق التجميل وما لا يلزم يتذرعون بالفقر عندما يأتي الحديث عن كتاب أو مجلة..
عشر مجلات عربية مهمة أغلقت أو انتحرت تباعا في العقود الاربعة الماضية بسبب الافلاس.. والمستودعات والمخازن مليئة بالوصفات الطبية التي لم يقرأها المرضى ولم يتم صرفها حتى الآن،،
الدستور