الذين يعلمون والذين لا يعلمون

مشكلة العالم الثالث هي انه يقرأ دوليا في عناوينه الرئيسة فقط، وليس بالتفاصيل حيث يمكن أن يقبع حتى الشيطان نفسه.
وهي مشكلة تتفاقم حين تكون الحكومة مسيطرة على أكبر المؤسسات الإعلامية وقامعة لغيرها، والذي هو حال الغالبية الساحقة من الدول العربية. وحين تكون الأنباء متعلقة بدولة صغيرة كالأردن، تتفاقم المشكلة أكثر.
وأحد أكبر مغالطات العناوين الرئيسة المعتمدة بالنسبة للأردن، والتي تتردد الآن في فترة الانتخابات وفي كل مناسبة سياسية، هي أن الإخوان المسلمون (قبل وبعد تمثيلهم في حزب جبهة العمل الإسلامي) هم المعارضة الرئيسة والأكبر في الأردن.
وهو ما يتناسى حقيقة موثقة تفيد بان الإخوان كانوا منذ بداية تأسيس الإمارة حلفاء للنظام حتى في قمع الأحزاب الأخرى المعارضة بحق، وقصصه كانت يرويها دوما معارضون ورجال دولة.
ولا توجد معارضة جادة تتبناها كل الحكومات وتنميها بمعزل عن أية منافسة، ناهيك عن أية «معارضة» لطرح تلك المعارضة.. إلا أن تكون على طريقة «المعارض المشروع» الذي صورته د. نوال سعداوي في إحدى رواياتها.
وفي ضوء غلبة «عناوين» مقاطعة أكبر حزب معارض، تشعب محليا الحديث المعروف عن علاقة الإخوان بالحكم لمقارنة ما حدث عندنا بما حدث في مصر حين تحالف السادات مع الإخوان، وبخاصة في المواجهات مع طلبة الجامعات من التيارات السياسية الأخرى.
وإذا كان يجوز أن يجري القفز عن مراحل التحالف القصيرة مع الحكم في مصر، قبل انقلابهم عليه أو انقلابه عليهم، فإن الأمر ذاته لا يجوز في الأردن حيث تحالف الأخوان مع الحكم هو القاعدة ومعارضتهم له هي الاستثناء.. وبخاصة حين يصبح ذلك الاستثناء هو الخيار المجمع عليه من غالبية القوى الاجتماعية والسياسية والنقابية والشخصيات الوطنية ذات الثقل الحقيقي على الساحة الأردنية.
وفي ضوء هذا المد المعارض غير المسبوق بحيث يصبح هو القاعدة الوطنية، يصير قبول توصيفات معارضة أية فئة أكثر تشددا لكونه أكثر واقعية وصراحة . والواقعية والصراحة (المحرك لأغلب الحوارات الجارية غير المسبوقة في سخونتها) هو ما تفرضه لحظة تجري فيها تصفية للقضية الفلسطينية يكاد يجمع كل الأردنيين على انه مخطط لها أن تكون على حسابهم.
والموقف من الانتخابات هو أحد وسائل قياس توسع المعارضة. فمثلا، ما كان شائعا في مناطق نفوذ العشائر تحديدا، هو الإقبال الكبير على أية انتخابات كون المناصب المنتخبة رسخت كجزء من الوجاهة العشائرية وربطت بالخدمات التي تمر عبر شيخ العشيرة وليس من مسار حقوق المواطن في دولته، بحيث بقيت المناطق العشائرية تسجل نسبة اقتراع عالية حتى لتلك المحسومة نتائجها لمرشح عشيرة بعينها، ولمجرد تعزيز وجاهة تلك العشيرة كما لزيادة حصتها من الخدمات.
ولكن الآن تعلن قطاعات واسعة ومتزايدة من بين صفوف تلك العشائر مقاطعتها للانتخابات، وتطرح أسبابها السياسية بل وتصوغ مطالبها الخدمية المحقة في صورة برامج سياسية-اقتصادية كلية .
وكله نتيجة استشعار لخطر التسليم لسياسات رسمية، الانتخابات ومجرياتها المعدة لتحديد نتائجها والموقف من المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية وحتى ما سبقها من مفاوضات أردنية- إسرائيلية واتفاقية سلام وتطبيع، وبيع أصول الدولة وانسحابها من أغلب أدوارها الحيوية، والفساد المستشري غير القابل للمحاسبة.. كلها باتت تعتبر مصدر خطر على الأردن يصل حد تهديد بقائه.
ومقاطعة الانتخابات تطور خطير بالذات لأن فرض عودة الانتخابات النيابية جرى في انتفاضة نيسان عام 89 . وهي انتفاضة شعبية قاعدية بامتياز ولم تجر بتحريك من أي حزب أو تنظيم، وإن شاركت فيها كل القوى السياسية بطريقة أو بأخرى بعد اندلاعها، باستثناء الإخوان المسلمين الذين لم يشاركوا إلا في الانتخابات بعد أن تأكد إجراؤها.. وسبقتهم ورافقتهم أثناء الحملة الانتخابية، بل وإلى قبة البرلمان وعلى لسان بعض نوابهم المنتخبين، دعوات تحرم الديمقراطية وتكفرها فيما هو يدعون الناس للالتفاف حولهم من باب أنهم يمثلون حكم الإسلام وليس الديمقراطية بتعدديتها.
ولم يتغير ذلك الخطاب الإخواني إلا بعد أمد، ولم ينضموا للمطالبة بحكم الدستور إلا قبل بضع سنوات ومن قيادات شابة مستجدة مثلت أولى تجليات التغير القاعدي لديهم. ومن هنا فإن دعوة من قاموا بانتفاضة شعبية للمطالبة بتلك الانتخابات مقدمين تضحيات جسام في سبيلها، لمقاطعتها الآن ، هو الذي ينبغي التوقف عنده بأطول من التوقف عند مقاطعة حزب هنا قام بامتيازات رسمية، أو هرولة لها من قبل حفنة أحزاب غيره ممن ألغى فرصهم طول الاضطهاد هناك .. فهذه المقاطعة الشعبية المتفتقة في كل مكان كما تفتقت الانتفاضة عفويا ودونما تنسيق وإن يتجاوب يؤشر على توحد القناعات، مؤشر على حال شارف اليأس مما آلت إليه تلك المسماة ديمقراطية عندنا، وكشفا أخطر للغطاء عنها.
أما الإسلاميون فإن "خطابهم المعارض " بدأ مع بداية تسعينات القرن الماضي مع إعلان الأردن ذهابه لما اسمي للمفاوضات السلمية، ولكن المسمى الشعبي المعلن لها منذ قيام الإمارة فهو " الصلح مع إسرائيل "، في إدانة له.
وبالنسبة للإسلاميين هم درجوا تاريخيا على تحريم الاتصال بالصهاينة بناء على عداوة دينية مع اليهود شكلت صلب خطبهم الدينية – السياسية، كون نقد الحكومات لم يكن ورادا في ظل التحالف القائم معها.
وخطبهم تلك تجعلهم مسؤولين أمام مجمل الشارع الأردني المسلم ، وليس فقط أمام قواعدهم. ولكنهم حقيقة بقوا في حدود الخطاب الأيديولوجي، في حين بدا جليا كسر الحلف من جانب الحكومات تحديدا - كونه بات يضر بتوجهها نحو إسرائيل بما يعتبره الأردنيون محاباة أخرى مستجدة أو متكشفة - في صورة تحجيم لدور الإخوان حين شاركوا في الانتخابات ورفض إعطاءهم وزارات بعينها ومواقع أخرى كانت تقدم لهم بشكل يكاد يكون مسلم به ..وفي صورة قفز عنهم بلا مبالاة تامة حين قاطعوا الانتخابات عام 1997 مما قلص حجمهم السياسي القائم لحد كبير على ذلك التحالف.. مرفقة (أي الحكومات) كليهما بكـَمٍ غير قليل من التنكر للاتفاقات السرية معهم أو الإملاء وحتى التوبيخ، الذي خرج بعض منه للعلن.. وصولا لسلسلة من الاختراقات لقياداتهم، وتحديدا من بين من أوصلهم التنظيم لمجلس النواب، وهو ما جرأ قيادات أخرى ليست على وفاق كاف مع سياسات التنظيم القديمة أو المستجدة على الانسحاب منه.
حين تجلى كل هذا للقواعد متجاوزا كل محاولات تبرير القيادات له، مضافا له كون قواعدهم جزء من الجسم الوطني الذي استشعر خطر السياسات الرسمية بغض النظر عن أيديولوجياته، أخذت القواعد قرارها بالمقاطعة بأغلبية أصوات تفوق السبعين بالمائة.
وبعمومه، الثقل المعارض الآن عاد للقواعد كلها بلا استثناء وبدأ يلزم قياداتها، بل هو أحضر معه وما زال يحضر قيادات جديدة من رحم المرحلة والهم الشعبي.. مما يلزم النخب كافة، وبخاصة تلك التي ظنت أنها تقود جموعا صماء، أن تعيد حساباتها. التغير بدأ قبل الإعلان عن المفاوضات العلنية مع إسرائيل والتي فاقمت كل شيء وجرت المنطقة إلى محرقتها لسوء إدارة كل من قام على تلك المفاوضات، بأكثر مما هو بفعل معارضيها .وهو تغير كان قد نضج في أواخر الثمانينات وتجلى في انتفاضة نيسان عام 89.
ولهذا فقد شاعت وانتشرت كمقولة تاريخية، جملة عابرة وردت على لسان احد شيوخ العشائر في الجنوب إبان الانتفاضة، وفي تعليق على رفض شباب عشيرته تدخله كوسيط في شان ثانوي جدا بمعيار ما كان يجري من أحداث جسام.. وهي قوله " ما عدنا نعرف أبناءنا..
الإخوان، آخر القادمين للمشهد المتغير، عرفوا. بقي حبيسو العناوين المكرر ة في الخارج لا يعرفون. وكذلك الحكومة لا تعرف. ولكن جهل الحكومة لم يعد يقلقنا، فالمرض الذي يستحيل شفاؤه، يصبح تفاقمه الوسيلة الأضمن والأسرع لرحيل المصابين به.
( الراية )