ليست «مصالحة» .. ولا «وطنية»

فجأة ، بلا مقدمات ومن دون سابق إنذار ، يلمع "البرق اليماني" من رحاب مكة المكرمة ، يطفئ الوزير عمر سليمان الضوء الأحمر ، ويشعل "اللمبة" الخضراء ، بعد لقاء عابق بالأجواء الإيمانية والرحمانية مع خالد مشعل رئيس مكتب حماس السياسي ، تنطلق الاتصالات في شتى الاتجاهات وصولا إلى "المقاطعة" في رام الله ، فينطلق عزام الأحمد على رأس وفد غير رفيع إلى دمشق ، يلتقيه "أبو الوليد" في اجتماع "بناء ومثمر" ، يذلل الرجلان عقبات لم تذلل من قبل ، ويتعاهدان على اللقاء مجدداً لتذليل البقية الباقية منها ، على أمل أن تُشدّ الرحال قريباً إلى القاهرة ، لتوقيع "الورقة المصرية" كما هي حفظاً "لليمين" الذي قطعه مدير المخابرات المصرية ، بألا يسمح بفتح الورقة للنقاش مجدداً ، على أن تلصق بها ورقة التفاهمات المُلزمة بين فتح وحماس ، في تحايل غير مبدع ، على "أغلظ الأيمان" التي قطعت في سياق جهود استعادة المصالحة.
فجأة ، ومن دون توطئة أو تمهيد ، وبالضد من كل التكهنات والتوقعات ، باتت طرق الحوار والمصالحة سالكة وآمنة. نحن الذين كنا نرقب بقلق بالغ ، تفشي الانقسام وانتقاله إلى داخل منظمة التحرير على وقع الاستئناف غير المشروط للمفاوضات المباشرة ، فوجئنا بروح الوحدة الوطنية ترفرف في سماء "اللقاءات الأخوية البناءة" في دمشق....نحن الذين استوطنتنا الخشية من "تعمّيق" الانقسام وتكريسه و"لا نهائيته" ، وأخذنا نقرأ بإمعان كل سطر وجملة تصدر عن "الجبهة الشعبية" المُتفلًّتةً من عضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة ، نفاجأ بمن يقول لنا: لسنا بحاجة لوساطة أو وسطاء ، طرقنا مفتوحة وآمنة وسالكة ، "اطلعوا منها واحنا بألف خير".
على من يضحك هؤلاء ، ومن يضللون؟...أية "مصالحة" تلك التي يتحدثون عنها ، وكيف تكون "وطنية" وحبر الاتهمات بالخيانة والعمالة لم يجف بعد ، وأثير تلفزيوني الأقصى وفلسطين ما زال متخماً بكل ألوان الاتهامات التخوينية و"الظلامية" المتبادلة ، فيما سجون الضفة وغزة ، بالكاد تتسع لساكنيها من "المجاهدين" و"المناضلين" من كلا الطرفين.
ما يجري تداوله تحت شعار "المصالحة" بين الفصيلين الكبيرين ، ليس سوى لعبة فصائلية انتهازية ، فلا هي "مصالحة" ولا هي "وطنية" ، هي في أحسن أحوالها صفقة تبادل منافع تكتيكية وصغيرة ، "فصائلية" بامتياز ، وهي ستعالج جميع الملفات من "الأمن والمال والحصار والسجون وتوزيع الثروة والسلطة" ، باستثناء الملف الأهم: فلسطين في مهب المفاوضات المباشرة والاستيطان المُستأنف.
فتح ، السلطة ، الرئاسة ، المنظمة وحكومة تصريف الأعمال ، تريد فترة "تهدئة" و"هدنة" مع حماس ، لتمرير عام المفاوضات المباشرة "على خير" ، والظهور على مائدة التفاوض بمظهر الممثل الشرعي الوحيد ، من دون أن تدفع الكثير من "جيب برنامجها السياسي" ، حماس بمقدورها أن توفر "البضاعة" وهي باقترابها من المنظمة ستجعل ابتعاد فصائل المنظمة عنها أمراً بلا مغزى أو قيمة...في المقابل تبدو حماس ، حركة وحكومة ، غزة ودمشق والضفة ، بحاجة ماسة لصفقة تخفف عنها أعباء الحصار و"الأزمة مع مصر" و"التجاهل" في قضية المفاوضات وشاليط والمعابر وكل ما ظنّت الحركة أنه أوراق قوة وعوامل مسرّعة لاعتراف العالم بها ، وإقدامه عليها ، وإدباره عن "خصومها ومجادليها" في رام الله ، فتح بمقدورها أن توفر "البضاعة" لكن عيون حماس ستظل متسمّرة على مصر ومعبر رفح.
إنها مفارقة حقاً ، إذ في الوقت الذي تتحضّر فيه "الشعبية" لمغادرة مقعد القيادة في المنظمة ، وترتفع كما لم يسبق من قبل ، نبرة الرفض والمعارضة في خطاب "الديمقراطية" و"حزب الشعب" وكثير من المستقلين أفرادا وجماعات ، تتجه حماس إلى "عقد الصفقات" مع الفريق الآخر ، حتى وإن كانت كلفتها التغطية على "مشروع المفاوضات المباشرة" الذي أقامت حماس الدنيا ولم تقعدها ، وهي تهدد وتتوعد بإسقاطه.
يحدثونك عن تقلبات الطبقة السياسية اللبنانية وأنموذجها الأكثر فجاجة: وليد جنبلاط ، أعتقد أن هؤلاء بحاجة لـ"دروس تقوية" يقدمها لهم نظراؤهم من الفلسطينيين الذين يبدو أن لسان حال بعضهم يردد: "أنا وإن كنت الأخير زمانه...لآت بما لم تستطعه الأوائل".
( الدستور )